وَإِذَا حَسَدْتَ فَلَا تَبْغِ» " وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ آدَمَ إِلَّا وَقَدْ خُلِقَ مَعَهُ الْحَسَدُ فَمَنْ لَمْ يُجَاوِزْ ذَلِكَ إِلَى الْبَغْيِ وَالظُّلْمِ لَمْ يَتْبَعْهُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ قُومًا عَلَى حَسَدِهِمْ آخَرِينَ فَقَالَ: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: ٥٤] [سُورَةُ النِّسَاءِ: الْآيَةُ ٥٤] وَقَالَ: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: ٣٢] إِلَى قَوْلِهِ: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: ٣٢] [سُورَةُ النِّسَاءِ: الْآيَةُ ٣٢] وَجَاءَ مَرْفُوعًا: " «إِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ» " وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ الزُّبَيْرِ مَرْفُوعًا: " «دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمُ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ حَالِقَتَا الدِّينِ لَا حَالِقَتَا الشَّعْرِ» " وَعَنْهُ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ بْنِ مَيْمُونٍ: " «لَمَّا رَفَعَ اللَّهُ مُوسَى نَجِيًّا رَأَى رَجُلًا مُتَعَلِّقًا بِالْعَرْشِ فَقَالَ: يَا رَبِّ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا عَبْدٌ مِنْ عِبَادِي صَالِحٌ إِنْ شِئْتَ أَخْبَرْتُكَ بِعَمَلِهِ، قَالَ: يَا رَبِّ أَخْبِرْنِي، قَالَ: كَانَ لَا يَحْسُدُ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» " قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهَذَا مَخْصُوصٌ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ» " وَبِحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: " «لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْخَيْرِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا» " اهـ عَلَى أَنَّ هَذَا إِنَّمَا هُوَ غِبْطَةٌ وَهُوَ أَنْ يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَمَنَّى زَوَالَهُ عَنْهُ.
(وَلَا تَدَابَرُوا) أَيْ: لَا يُعْرِضُ أَحَدُكُمْ بِوَجْهِهِ عَنْ أَخِيهِ وَيُوَلِّهِ دُبُرَهُ اسْتِثْقَالًا وَبُغْضًا لَهُ بَلْ يُقْبِلُ عَلَيْهِ وَيَبْسُطُ لَهُ وَجْهَهُ مَا اسْتَطَاعَ.
(وَكُونُوا) يَا (عِبَادَ اللَّهِ) فَهُوَ مُنَادَى بِحَذْفِ الْأَدَاةِ (إِخْوَانًا) زَادَ فِي رِوَايَةِ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ: " كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ "، أَيْ: مُتَوَاخِينَ مُتَوَادِّينَ بِاكْتِسَابِ مَا تَصِيرُونَ بِهِ كَإِخْوَانِ النَّسَبِ فِي الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْمُوَاسَاةِ وَالنَّصِيحَةِ.
( «وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُهَاجِرَ» ) قَالَ أَبُو عُمَرَ: كَذَا لِيَحْيَى وَحْدَهُ وَسَائِرُ رُوَاةِ الْمُوَّطَأِ يَقُولُونَ يَهْجُرُ (أَخَاهُ) فِي الْإِسْلَامِ ( «فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ» ) بِأَيَّامِهَا.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّمَا جُوِّزَ فِي الثَّلَاثِ لِأَنَّ الْمَرْءَ فِي ابْتِدَاءِ الْغَضَبِ مَغْلُوبٌ فَرُخِّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَسْكُنَ غَضَبُهُ، زَادَ عِيَاضٌ: وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ السُّكُوتُ عَنْ حُكْمِهَا لِيَطْلُبَ فِي الشَّرْعِ وَاقْتَصَرَ عَلَى مَا وَرَاءَهَا، وَهَذَا عَلَى رَأْيِ مَنْ لَا يَقُولُ بِالْمَفْهُومِ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ، قَالَ الْأُبِّيُّ: وَالْمُرَادُ بِالْأُخُوَّةِ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ جَازَ هَجْرُهُ فَوْقَ الثَّلَاثِ، وَالْمُرَادُ بِالْهِجْرَةِ فِيمَا يَقَعُ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ عَتْبٍ أَوْ مَوْجَدَةٍ، أَيْ: غَضَبٍ أَوْ تَقْصِيرٍ فِي حُقُوقِ الْعِشْرَةِ وَالصُّحْبَةِ دُونَ مَا كَانَ فِي جَانِبِ الدِّينِ، فَإِنَّ هِجْرَةَ أَهْلِ الْبِدَعِ دَائِمًا مَا لَمْ تَظْهَرِ التَّوْبَةُ، وَمَرَّ لَهُ مَزِيدٌ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute