إِذَا سَاءَ فِعْلُ الْمَرْءِ سَاءَتْ ظُنُونُهُ وَصَدَّقَ مَا يَعْتَادُهُ مِنْ تَوَهُّمِ وَعَادَى مُحِبِّيهِ بِقَوْلِ عَدُوِّهِ وَأَصْبَحَ فِي لَيْلٍ مِنَ الشَّكِّ مُظْلِمِ (فَإِنَّ الظَّنَّ) أَقَامَ الْمُظْهَرَ مَقَامَ الْمُضْمَرِ لِزِيَادَةِ تَمْكِينِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي ذِكْرِ السَّامِعِ حَثًّا عَلَى الِاجْتِنَابِ.
( «أَكْذَبُ الْحَدِيثِ» ) أَيْ: حَدِيثِ النَّفْسِ لِأَنَّهُ يَكُونُ بِإِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ، وَاسْتُشْكِلَ تَسْمِيَتُهُ كَذِبًا بِأَنَّ الْكَذِبَ مِنْ صِفَاتِ الْأَقْوَالِ.
وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْمُرَادَ عَدَمُ مُطَابَقَةِ الْوَاقِعِ، سَوَاءٌ كَانَ قَوْلًا أَمْ لَا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ مَا يَنْشَأُ عَنِ الظَّنِّ فَوُصِفَ الظَّنُّ بِهِ مَجَازًا، قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ: لَيْسَ الْمُرَادُ تَرْكَ الْعَمَلِ بِالظَّنِّ الَّذِي تُنَاطُ بِهِ الْأَحْكَامُ غَالِبًا، بَلِ الْمُرَادُ تَرْكُ تَحْقِيقِ الظَّنِّ الَّذِي يَضُرُّ بِالْمَظْنُونِ بِهِ، وَكَذَا مَا يَقَعُ فِي الْقَلْبِ بِلَا دَلِيلٍ وَذَلِكَ أَنَّ أَوَائِلَ الظُّنُونِ إِنَّمَا هِيَ خَوَاطِرُ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا وَمَا لَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ لَا يُكَلَّفُ بِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: " «تَجَاوَزَ اللَّهُ لِلْأُمَّةِ بِمَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا» " وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْمُرَادُ بِالظَّنِّ هُنَا التُّهْمَةُ الَّتِي لَا سَبَبَ لَهَا كَمَنْ يَتَّهِمُ رَجُلًا بِالْفَاحِشَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ عَلَيْهِ مَا يَقْتَضِيهَا وَلِذَا عُطِفَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: " وَلَا تَجَسَّسُوا " وَذَلِكَ أَنَّ الشَّخْصَ يَقَعُ لَهُ خَاطِرُ التُّهْمَةِ فَيُرِيدُ أَنْ يَتَحَقَّقَ فَيَتَجَسَّسُ وَيَبْحَثُ وَيَسْتَمِعُ فَيُنْهَى عَنْ ذَلِكَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يُوَافِقُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات: ١٢] [سُورَةُ الْحُجُرَاتِ: الْآيَةُ ١٢] الْآيَةَ، فَدَلَّ سِيَاقُهَا عَلَى الْأَمْرِ بِصَوْنِ عِرْضِ الْمُسْلِمِ غَايَةَ الصِّيَانَةِ لِتَقَدُّمِ النَّهْيِ عَنِ الْخَوْضِ فِيهِ بِالظَّنِّ، فَإِنْ قَالَ الظَّانُّ: أَبْحَثُ لِأَتَحَقَّقَ، قِيلَ لَهُ: {وَلَا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: ١٢] فَإِنْ قَالَ: تَحَقَّقْتُهُ مِنْ غَيْرِ تَجْسِيسٍ، قِيلَ لَهُ: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: ١٢] .
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: اسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ قَوْمٌ عَلَى مَنْعِ الْعَمَلِ فِي الْأَحْكَامِ بِالِاجْتِهَادِ وَالرَّأْيِ، وَحَمَلَهُ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى ظَنٍّ مُجَرَّدٍ عَنِ الدَّلِيلِ لَيْسَ مَبْنِيًّا عَلَى أَصْلٍ وَلَا تَحْقِيقِ نَظَرٍ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: لَيْسَ الْمُرَادُ فِي الْحَدِيثِ بِالظَّنِّ الِاجْتِهَادَ الْمُتَعَلِّقَ بِالْأَحْكَامِ أَصْلًا بَلِ الِاسْتِدْلَالُ لَهُ بِذَلِكَ ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ ضَعْفَهُ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا بُطْلَانُهُ فَلَا لِأَنَّ اللَّفْظَ صَالِحٌ لِذَلِكَ وَلَا سِيَّمَا إِذَا حُمِلَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ عِيَاضٌ.
وَقَدْ قَرَّبَهُ فِي الْمُفْهِمِ وَقَالَ: الظَّنُّ الشَّرْعِيُّ الَّذِي هُوَ تَغْلِيبُ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ أَوِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْيَقِينِ لَيْسَ مُرَادًا مِنَ الْحَدِيثِ وَلَا مِنَ الْآيَةِ، فَلَا يُلْتَفَتُ لِمَنِ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى إِنْكَارِ الظَّنِّ الشَّرْعِيِّ.
(وَلَا تَحَسَّسُوا) بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ.
(وَلَا تَجَسَّسُوا) بِالْجِيمِ وَرَوَى بِتَقْدِيمِهَا عَلَى الْحَاءِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، هُمَا لَفْظَتَانِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ وَهُوَ الْبَحْثُ وَالتَّطَلُّبُ لِمَعَايِبِ النَّاسِ وَمُسَاوِيهِمْ إِذَا غَابَتْ وَاسْتَتَرَتْ لَمْ يَحِلَّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهَا، وَلَا يَكْشِفُ عَنْ خَبَرِهَا، وَأَصْلُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ فِي اللُّغَةِ مِنْ قَوْلِكَ حَسَّ الشَّيْءَ، أَيْ: أَدْرَكَهُ بِحَسِّهِ وَجَسِّهِ مِنَ الْمِحَسَّةِ وَالْمِجَسَّةِ، وَكَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute