ذِكْرُ الثَّانِي لِلتَّوْكِيدِ كَقَوْلِهِمْ بُعْدًا وَسُحْقًا.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَصْلُ الَّتِي بِالْحَاءِ مِنَ الْحَاسَّةِ إِحْدَى الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ، وَبِالْجِيمِ مِنَ الْجَسِّ بِمَعْنَى اخْتِبَارِ الشَّيْءِ بِالْيَدِ وَهِيَ إِحْدَى الْحَوَاسِّ فَتَكُونُ الَّتِي بِالْحَاءِ أَعَمَّ.
وَقَالَ غَيْرُهُ بِالْجِيمِ الْبَحْثُ عَنِ الْعَوْرَاتِ وَبِالْحَاءِ اسْتِمَاعُ حَدِيثِ الْقَوْمِ، وَقِيلَ: بِالْجِيمِ الْبَحْثُ عَنْ بَوَاطِنِ الْأُمُورِ وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ فِي الشَّرِّ، وَبِالْحَاءِ الْبَحْثُ عَمَّا يُدْرَكُ بِحَاسَّةِ الْعَيْنِ أَوِ الْأُذُنِ وَرَجَّحَ هَذَا الْقُرْطُبِيُّ.
وَقِيلَ: بِالْحَاءِ تَتَبُّعُ الشَّخْصِ لِنَفْسِهِ وَبِالْجِيمِ لِغَيْرِهِ وَاخْتَارَهُ ثَعْلَبٌ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: التَّجَسُّسُ بِالْجِيمِ تَطَلَّبُ أَخْبَارِ النَّاسِ فِي الْجُمْلَةِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إِلَّا لِلْإِمَامِ الَّذِي رُتِّبَ لِمَصَالِحِهِمْ وَأُلْقِيَ إِلَيْهِ زِمَامُ حِفْظِهِمْ، فَأَمَّا عِرْضُ النَّاسِ فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ ذَلِكَ إِلَّا لِغَرَضِ مُصَاهَرَةٍ أَوْ جِوَارٍ أَوْ رِفَاقَةٍ فِي سَفَرٍ أَوْ مُعَامَلَةٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الِامْتِزَاجِ، وَأَمَّا بِالْحَاءِ فَطَلَبُ الْخَبَرِ الْغَائِبِ لِلشَّخْصِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ وَلَا لِسِوَاهُ.
وَفِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ لِلْمَاوَرْدِيِّ: لَيْسَ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَبْحَثَ عَمَّا لَمْ يَظْهَرْ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ وَلَوْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ اسْتِتَارُ أَهْلِهَا بِهَا إِلَّا إِنْ تَعَيَّنَ طَرِيقًا إِلَى إِنْقَاذِ نَفْسٍ مِنَ الْهَلَاكِ مَثَلًا كَإِخْبَارِ ثِقَةٍ بِأَنَّ فَلَانًا خَلَا بِشَخْصٍ لِيَقْتُلَهُ ظُلْمًا أَوِ امْرَأَةٍ لِيَزْنِيَ بِهَا، فَيُشْرَعُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ التَّجَسُّسُ وَالْبَحْثُ عَنْ ذَلِكَ حَذَرًا مِنْ فَوَاتِ اسْتِدْرَاكِهِ.
(وَلَا تَنَافَسُوا) بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ مِنَ الْمُنَافَسَةِ وَهِيَ الرَّغْبَةُ فِي الشَّيْءِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَيْ: لَا تَتَنَافَسُوا حِرْصًا عَلَى الدُّنْيَا إِنَّمَا التَّنَافُسُ فِي الْخَيْرِ قَالَ تَعَالَى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: ٢٦] [سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ: الْآيَةُ ٢٦] وَكَأَنَّ الْمُنَافَسَةَ هِيَ الْغِبْطَةُ وَأَبْعَدَ مَنْ فَسَّرَهَا بِالْحَسَدِ ; لِأَنَّهُ عَطَفَهُ عَلَيْهَا فَقَالَ: (وَلَا تَحَاسَدُوا) أَيْ: لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمْ زَوَالَ النِّعْمَةِ عَنْ غَيْرِهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: التَّنَافُسُ هُوَ التَّحَاسُدُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَّا أَنَّهُ يَتَمَيَّزُ عَنْهُ بِأَنَّهُ سَبَبُهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْمُرَادُ التَّنَافُسُ فِي الدُّنْيَا وَمَعْنَاهُ طَلَبُ الظُّهُورِ فِيهَا عَلَى النَّاسِ وَالتَّكَبُّرُ عَلَيْهِمْ وَمُنَافَسَتُهُمْ فِي رِيَاسَتِهِمْ وَالْبَغْيُ عَلَيْهِمْ وَحَسَدُهُمْ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْهَا، وَأَمَّا التَّنَافُسُ وَالْحَسَدُ عَلَى الْخَيْرِ وَطُرُقِ الْبِرِّ، فَلَيْسَ مِنْ هَذَا فِي شَيْءٍ.
(وَلَا تَبَاغَضُوا) أَيْ: لَا تَتَعَاطَوْا أَسْبَابَ الْبُغْضِ ; لِأَنَّ الْبُغْضَ لَا يُكْتَسَبُ ابْتِدَاءً.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ النَّهْيُ عَنِ الْأَهْوَاءِ الْمُضِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّبَاغُضِ.
قَالَ الْحَافِظُ: بَلْ هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْأَهْوَاءِ ; لِأَنَّ تَعَاطِيَ الْأَهْوَاءِ ضَرْبٌ مِنْ ذَلِكَ، وَحَقِيقَةُ التَّبَاغُضِ أَنْ يَقَعَ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَقَدْ يُطْلَقُ إِذَا كَانَ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَالْمَذْمُومُ مِنْهُ مَا كَانَ فِي غَيْرِ اللَّهِ، أَمَّا فِي اللَّهِ فَوَاجِبٌ يُثَابُ فَاعِلُهُ لِتَعْظِيمِ حَقِّ اللَّهِ وَلَوْ كَانَا أَوْ أَحَدُهُمَا مِنْ أَهْلِ السَّلَامَةِ، كَمَنْ يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إِلَى اعْتِقَادٍ يُنَافِي الْآخَرَ فَيَبْغَضُهُ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ مَعْذُورٌ عِنْدَ اللَّهِ.
(وَلَا تَدَابَرُوا) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَا تَتَهَاجَرُوا فَيَهْجُرُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ مَأْخُوذٌ مِنْ تَوْلِيَةِ الرَّجُلِ الْآخَرَ دُبُرَهُ إِذَا أَعْرَضَ عَنْهُ حِينَ يَرَاهُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنَّمَا قِيلَ لِلْإِعْرَاضِ مُدَابَرَةٌ لِأَنَّ مَنْ أَبْغَضَ أَعْرَضَ وَمَنْ أَعْرَضَ وَلَّى دُبُرَهُ وَالْمُحِبُّ بِالْعَكْسِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا