وَيُقَوِّي ذَلِكَ مَا فِي مُسْلِمٍ: «أَنَّ الْجِنَّ سَأَلُوهُ الزَّادَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي يَدِ أَحَدِكُمْ أَوْفَرَ مَا كَانَ لَحْمًا» ; لِأَنَّ صَيْرُورَتَهُ لَحْمًا إِنَّمَا يَكُونُ لِلْأَكْلِ حَقِيقَةً.
وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: الْجِنُّ أَصْنَافٌ فَخَالِصُهُمْ لَا يَأْكُلُونَ، وَلَا يَشْرَبُونَ، وَلَا يَتَوَالَدُونَ وَصِنْفٌ تَفْعَلُ ذَلِكَ، وَمِنْهُمُ السَّعَالِي، وَالْغِيلَانُ، وَالْقُطْرُبُ.
قَالَ الْحَافِظُ: وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ كَانَ جَامِعًا لِلْقَوْلَيْنِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا لِابْنِ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمِ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ مَرْفُوعًا: " «الْجِنُّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ: لَهُمْ أَجْنِحَةٌ يَطِيرُونَ فِي الْهَوَاءِ، وَصِنْفٌ حَيَّاتٌ وَعَقَارِبُ، وَصِنْفٌ يَحُلُّونَ وَيَظْعَنُونَ وَيَرْحَلُونَ» "، وَلِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا مَرْفُوعًا نَحْوُهُ، لَكِنْ قَالَ فِي الثَّالِثِ: وَصِنْفٌ عَلَيْهِمُ الْحِسَابُ وَالْعِقَابُ، انْتَهَى.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَلَعَلَّ الصِّنْفَ الطَّيَّارَ هُوَ الَّذِي لَا يَأْكُلُ، وَلَا يَشْرَبُ إِنْ صَحَّ الْقَوْلُ بِهِ.
وَقَالَ صَاحِبُ آكَامِ الْمَرْجَانِ: وَبِالْجُمْلَةِ فَالْقَائِلُونَ: الْجِنُّ لَا يَأْكُلُ، وَلَا يَشْرَبُ إِنْ أَرَادُوا جَمِيعَهُمْ فَبَاطِلٌ لِمُصَادَمَةِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَإِنْ أَرَادُوا صِنْفًا مِنْهُمْ فَمُحْتَمَلٌ، لَكِنَّ الْعُمُومَاتِ تَقْتَضِي أَنَّ الْكُلَّ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ، انْتَهَى.
وَأَخَذَ جَمَاعَةٌ مِنْ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ حُرْمَةَ الْأَكْلِ بِالشِّمَالِ، وَوُجُوبَهُ بِالْيَمِينِ، وَلِصِحَّةِ الْوَعِيدِ فِي الْأَكْلِ بِالشِّمَالِ، فَفِي مُسْلِمٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ فَقَالَ: كُلْ بِيَمِينِكَ، قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ، فَقَالَ: لَا اسْتَطَعْتَ مَا مَنَعَهُ إِلَّا الْكِبْرُ، فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ بَعْدُ» "، أَيْ فَمَا اسْتَطَاعَ رَفْعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى فَمِهِ.
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الرَّبِيعِ الْجِيزِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: " «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةَ تَأْكُلُ بِشِمَالِهَا، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَخَذَهَا دَاءُ غَزَّةَ، فَقِيلَ: إِنَّ بِهَا قُرْحَةً، فَقَالَ: وَإِنْ، فَمَرَّتْ بِغَزَّةَ فَأَصَابَهَا الطَّاعُونُ فَمَاتَتْ» "، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الدُّعَاءَ لَيْسَ لِتَرْكِ الْمُسْتَحَبِّ بَلْ لِقَصْدِ الْمُخَالَفَةِ كِبْرًا بِلَا عُذْرٍ، فَدَعَا عَلَى الرَّجُلِ فَشُلَّتْ يَمِينُهُ، وَالْمَرْأَةِ فَمَاتَتْ، وَبِهَذَا الْإِيرَادِ أَنَّ دُعَاءَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَقْصُودُ بِهِ الزَّجْرُ لَا الدُّعَاءُ الْحَقِيقِيُّ، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ سُفْيَانُ وَعُبَيْدُ اللَّهِ فِي مُسْلِمٍ أَيْضًا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute