فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُمَا، وَطَائِفَةٌ لَا يُشْتَرَطُ الْمَحْرَمُ، قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: مَنْ لَا وَلِيَّ لَهَا تَحُجُّ مَعَ مَنْ تَثِقُ بِهِ مِنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ، وَاخْتُلِفَ هَلْ مُرَادُهُ مَجْمُوعُ الصِّنْفَيْنِ، أَوْ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَحَدِهِمَا؟ وَأَكْثَرُ مَا نُقِلَ عَنْهُ اشْتِرَاطُ النِّسَاءِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَحُجُّ مَعَ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ مَسْلَمَةٍ ثِقَةٍ، وَاعْتَرَضَهُ الْخَطَّابِيُّ بِأَنَّهَا لَا تَكُونُ ذَا مَحْرَمٍ مِنْهَا، فَإِبَاحَةُ الْخُرُوجِ مَعَهَا فِي سَفَرِ الْحَجِّ خِلَافُ السُّنَّةِ، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ فِي حَجِّ الْفَرْضِ، فَأَمَّا التَّطَوُّعُ فَلَا تَخْرُجُ إِلَّا مَعَ مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ، وَأَجَابُوا عَنِ الْحَدِيثِ بِحَمْلِهِ عَلَى حَجِّ التَّطَوُّعِ، لَا الْفَرْضِ قِيَاسًا عَلَى الْإِجْمَاعِ فِي الْكَافِرَةِ، إِذَا أَسْلَمَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَيَجِبُ عَلَيْهَا الْهِجْرَةُ مِنْهَا، وَإِنْ بِلَا مَحْرَمٍ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا وُجُوبُ الْحَجِّ وَالْهِجْرَةِ.
وَتَعَقَّبَهُ الْمَازِرِيُّ، وَغَيْرُهُ بِأَنَّ إِقَامَتَهَا فِي دَارِ الْكُفْرِ حَرَامٌ؛ لِأَنَّهَا تَخْشَى عَلَى دِينِهَا وَنَفْسِهَا، وَلَا كَذَلِكَ تَأْخِيرُ الْحَجِّ لِلْخِلَافِ فِي فَوْرِيَّتِهِ، وَتَرَاخِيهِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَسَبَبُ هَذَا الْخِلَافِ مُخَالَفَةُ ظَوَاهِرِ الْأَحَادِيثِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: ٩٧] (سورة آلِ عِمْرَانَ: الْآيَةُ ٩٧) ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ الِاسْتِطَاعَةُ بِالْبَدَنِ، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ قَادِرٍ عَلَيْهِ بِبَدَنِهِ، وَمَنْ لَمْ تَجِدْ مَحْرَمًا قَادِرَةٌ بِبَدَنِهَا فَيَجِبُ عَلَيْهَا، فَلَمَّا تَعَارَضَتْ هَذِهِ الظَّوَاهِرُ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَجَمَعَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ بِأَنْ جَعَلَ الْحَدِيثَ مُبَيِّنًا لِلِاسْتِطَاعَةِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ، وَرَأَى مَالِكٌ، وَمُوَافِقُوهُ أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ الْأَمْنِيَّةُ بِنَفْسِهَا فِي حَقِّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَأَنَّ الْأَحَادِيثَ الْمَذْكُورَةَ لَمْ تَتَعَرَّضْ لِلْأَسْفَارِ الْوَاجِبَةِ، وَقَدْ أُجِيبَ أَيْضًا بِحَمْلِ الْأَخْبَارِ عَلَى مَا إِذَا لَمْ تَكُنِ الطَّرِيقُ أَمْنًا.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يُمْكِنُ أَنَّ الْمَنْعَ إِنَّمَا خَرَجَ لِمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ مِنَ الْخَلْوَةِ، وَانْكِشَافِ عَوْرَاتِهِنَّ غَالِبًا، فَإِذَا أُمِنَ ذَلِكَ بِحَيْثُ يَكُونُ فِي الرُّفْقَةِ نِسَاءٌ تَنْحَاشُ إِلَيْهِنَّ كَمَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، قَالَ الْبَاجِيُّ: وَهَذَا عِنْدِي فِي الِانْفِرَادِ وَالْعَدَدِ الْيَسِيرِ، فَأَمَّا فِي الْقَوَافِلِ الْعَظِيمَةِ، فَهِيَ كَالْبِلَادِ يَصِحُّ فِيهَا سَفَرُهَا دُونَ نِسَاءٍ، وَدُونَ مَحْرَمٍ، انْتَهَى.
وَلَمْ يَذْكُرِ الْجُمْهُورُ هَذَا الْقَيْدَ عَمَلًا بِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ، وَمَحَلُّ هَذَا كُلُّهُ مَا لَمْ تَدْعُ ضَرُورَةٌ كَوُجُودِ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ مُنْقَطِعَةٍ مَثَلًا، فَلَهُ أَنْ يَصْحَبَهَا بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ إِذَا خَافَ عَلَيْهَا لَوْ تَرَكَهَا، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ، وَفِي الْحَدِيثِ فَوَائِدُ أُخَرُ لَا نُطِيلُ بِذِكْرِهَا.
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى، وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ وَالنُّفَيْلِيِّ، الثَّلَاثَةُ عَنْ مَالِكٍ بِهِ يُدَوِّنُ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ الْمَازِرِيُّ عَلَى الْأَصَحِّ، وَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ، وَكَذَا رَوَاهُ مُعْظَمُ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ، انْتَهَى. وَفِي كَثِيرٍ مِنْ نُسَخِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ الْمَذْكُورَةِ عَنْ أَبِيهِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلَفٌ الْوَاسِطِيُّ فِي الْأَطْرَافِ، وَلِلْحَدِيثِ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute