كُلِّ الْأَسْفَارِ بِلَا زَوْجٍ وَلَا مَحْرَمٍ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهُوَ تَخْصِيصٌ لِلْعُمُومِ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمَعْنَى، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِيهِ بُعْدٌ؛ لِأَنَّ الْخَلْوَةَ بِهَا حَرَامٌ، وَمَا لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ مِنْ جَسَدِهَا غَالِبًا عَوْرَةٌ، فَالْمَظِنَّةُ مَوْجُودَةٌ فِيهَا، وَالْعُمُومُ صَالِحٌ لَهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَخْرُجَ مِنْهُ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمَرْأَةُ مَظِنَّةُ الطَّمَعِ فِيهَا، وَمَظِنَّةُ الشَّهْوَةِ، وَلَوْ كَبِيرَةً، وَقَدْ قَالُوا: لِكُلِّ سَاقِطَةٍ لَاقِطَةٌ، وَيَجْتَمِعُ فِي الْأَسْفَارِ مِنْ سُفَهَاءِ النَّاسِ وَسَقْطِهِمْ مَنْ لَا يَتَرَفَّعُ عَنِ الْفَاحِشَةِ بِالْعَجُوزِ، وَغَيْرِهَا، لِغَلَبَةِ شَهْوَتِهِ وَقِلَّةِ دَيْنِهِ وَمُرُوءَتِهِ وَحَيَائِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ اه.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا: " «أَنْ تُسَافِرَ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا» "، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَأَبِي دَاوُدَ: " «لَا تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ ثَلَاثًا إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ» "، وَفِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ الْمَذْكُورَةِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: " «تُسَافِرُ مَسِيرَةَ لَيْلَةٍ» "، وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ: يَوْمٍ، وَفِي أَبِي دَاوُدَ بَرِيدٍ بَدَلُ يَوْمٍ، وَفِي رِوَايَةٍ يَوْمَيْنِ، وَفِي أُخْرَى إِطْلَاقُ السَّفَرِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ، فَجَمَعَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَعِيَاضٌ، وَغَيْرُهُمْ، وَعَزَاهُ النَّوَوِيُّ لِلْعُلَمَاءِ بِأَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ السَّائِلِينَ، فَسُئِلَ مَرَّةً عَنْ سَفَرِهَا لَيْلَةً، فَقَالَ: لَا، وَأُخْرَى عَنْ سَفَرِهَا يَوْمًا، فَقَالَ: لَا، وَهَكَذَا فِي جَمِيعِهَا، وَلَيْسَ فِيهِ تَحْدِيدٌ، قَالَ الْأَبِيُّ: وَالْمُرَادُ أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ جَوَابًا لِسَائِلَيْنِ، فَلَا مَفْهُومَ لِأَحَدِهَا، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْفِقْهُ جَمَعَ أَحَادِيثَ الْبَابِ، فَحَقُّ النَّاظِرِ أَنْ يَسْتَحْضِرَ جَمِيعَهَا، وَيَنْظُرَ أَخَصَّهَا فَيُنِيطُ الْحُكْمَ بِهِ، وَأَخَصُّهَا بِاعْتِبَارِ تَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ يَوْمٌ؛ لِأَنَّهُ إِذَا امْتَنَعَ فِيهِ امْتَنَعَ فِيمَا هُوَ أَكْثَرُ، ثُمَّ أَخَصُّ مِنْ يَوْمٍ وُصْفُ السَّفَرِ الْمَذْكُورِ فِي جَمِيعِهَا، فَيُمْنَعُ فِي أَقَلِّ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ السَّفَرِ، ثُمَّ أَخَصُّ مِنَ اسْمِ السَّفَرِ الْخَلْوَةُ بِهَا، فَلَا تُعَرِّضُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا بِالْخَلْوَةِ مَعَ أَحَدٍ، وَإِنْ قَلَّ الْزَمْنُ لِعَدَمِ الْأَمْنِ لَا سِيَّمَا مَعَ فَسَادِ الزَّمَنِ، وَالْمَرْأَةُ فِتْنَةٌ إِلَّا فِيمَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ النُّفُوسُ مِنَ النُّفْرَةِ مِنْ مَحَارِمِ النَّسَبِ، وَقَدِ اتَّقَى بَعْضُ السَّلَفِ الْخَلْوَةَ بِالْبَهِيمَةِ، وَقَالَ: شَيْطَانٌ مُغْوِيٌّ، وَأُنْثَى حَاضِرَةٌ اه.
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا بِأَنَّ الْيَوْمَ الْمَذْكُورَ بِمَعْنَى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ الْمَجْمُوعَيْنِ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ مِنَ اللَّيْلِ، وَاللَّيْلَ مِنَ الْيَوْمِ، وَيَكُونُ ذِكْرُهُ يَوْمَيْنِ مُدَّةَ مَغِيبِهَا فِي هَذَا السَّفَرِ فِي السَّيْرِ، وَالرُّجُوعِ، فَأَشَارَ مَرَّةً لِمَسَافَةِ السَّفَرِ وَمَرَّةً لِمُدَّةِ الْمَغِيبِ، وَهَكَذَا فِي ذِكْرِ الثَّلَاثِ، فَقَدْ يَكُونُ الْيَوْمُ الْوَسَطُ بَيْنَ السَّيْرِ وَالرُّجُوعِ الَّذِي تَقْضِي فِيهِ حَاجَتَهَا، حَيْثُ سَافَرَتْ لَهُ فَتَتَّفِقُ الْأَحَادِيثُ، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا كُلُّهُ تَمْثِيلًا بِأَقَلِّ الْأَعْدَادِ، إِذِ الْوَاحِدُ أَوَّلُ الْعَدَدِ، وَالِاثْنَانِ أَوَّلُ الْكَثِيرِ وَأَقَلُّهُ، وَالثَّلَاثَةُ أَقَلُّ الْجَمْعِ، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا فِي قِلَّةِ الزَّمَانِ لَا يَحِلُّ لَهَا السَّفَرُ فِيهِ مَعَ غَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ فَكَيْفَ بِمَا زَادَ؟ وَبِهَذَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا اه.
وَاسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ، وَمَنْ وَافَقَهُمَا عَلَى أَنَّ الْمَحْرَمَ، أَوِ الزَّوْجَ شَرْطٌ فِي اسْتِطَاعَةِ الْمَرْأَةِ لِلْحَجِّ، فَإِنَّهُ حَرُمَ عَلَيْهَا السَّفَرُ إِلَّا مَعَ أَحَدِهِمَا، وَالْحَجُّ مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْفَارِ، فَيَكُونُ حَرَامًا عَلَيْهَا فَلَا يَجِبُ.
وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute