بِمَا يَتَأَذَّى بِهِ مَنْ يَجُوزُ فِي حَقِّهِ التَّأَذِّي، وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ الْأَذَى، وَإِنَّمَا هَذَا مِنَ التَّوَسُّعِ فِي الْكَلَامِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُ تَعَرَّضَ لِسُخْطِ اللَّهِ.
وَقَالَ عِيَاضٌ: زَعَمَ بَعْضُ مَنْ لَا تَحْقِيقَ عِنْدَهُ أَنَّ الدَّهْرَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ، وَهُوَ غَلَطٌ، فَإِنَّ الدَّهْرَ مُدَّةُ زَمَانِ الدُّنْيَا، وَعَرَّفَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ أَمَدُ مَفْعُولَاتٍ لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا، أَوْ فِعْلُهُ لِمَا قَبْلَ الْمَوْتِ، قَالَ: وَقَدْ تَمَسَّكَ الْجَهَلَةُ مِنَ الدَّهْرِيَّةِ، وَالْمُعَطِّلَةِ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَاحْتَجُّوا بِهِ عَلَى مَنْ لَا رُسُوخَ لَهُ فِي الْعِلْمِ، وَهُوَ بِنَفْسِهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الدَّهْرَ عِنْدَهُمْ حَرَكَاتُ الْفَلَكِ، وَأَمَدُ الْعَالَمِ، وَلَا شَيْءَ عِنْدَهُمْ، وَلَا صَانِعَ سِوَاهُ، وَكَفَى فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ: أَنَا الدَّهْرُ أُقَلِّبُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ، فَكَيْفَ يُقَلِّبُ الشَّيْءُ نَفْسَهُ؛ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا.
قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: مَنْ نَسَبَ شَيْئًا مِنَ الْأَفْعَالِ إِلَى الدَّهْرِ حَقِيقَةً كَفَرَ، وَمَنْ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ غَيْرُ مُعْتَقَدٍ لِذَلِكَ فَلَيْسَ بِكَافِرٍ، لَكِنْ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ لِتَشَبُّهِهِ بِأَهْلِ الْكُفْرِ فِي الْإِطْلَاقِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: لَا يَخْفَى أَنَّ مَنْ سَبَّ الصَّنْعَةَ فَقَدْ سَبَّ صَانِعَهَا، فَمَنْ سَبَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ أَقْدَمَ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ بِغَيْرِ مَعْنًى، وَمَنْ سَبَّ مَا يَجْرِي فِيهَا مِنَ الْحَوَادِثِ، وَذَلِكَ هُوَ أَغْلَبُ مَا يَقَعُ مِنَ النَّاسِ، وَهُوَ الَّذِي يُعْطِيهِ سِيَاقُ الْحَدِيثِ، حَيْثُ نَفَى عَنْهُمَا التَّأْثِيرَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا ذَنْبَ لَهُمَا فِي ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْحَوَادِثُ فَمِنْهَا مَا يَجْرِي بِوَاسِطَةِ الْعَاقِلِ الْمُكَلَّفِ، فَهَذَا يُضَافُ شَرْعًا وَلُغَةً إِلَى الَّذِي أُجْرِيَ عَلَى يَدَيْهِ، وَيُضَافُ إِلَى اللَّهِ لِكَوْنِهِ بِتَقْدِيرِهِ، فَأَفْعَالُ الْعِبَادِ مِنَ اكْتِسَابِهِمْ، وَلِذَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْأَحْكَامُ، وَهِيَ فِي الِابْتِدَاءِ خَلْقُ اللَّهِ، وَمِنْهَا مَا يَجْرِي بِلَا وَاسِطَةٍ، فَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى قُدْرَةِ الْقَادِرِ، وَلَيْسَ لِلَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِعْلٌ وَلَا تَأْثِيرٌ لَا لُغَةً وَلَا شَرْعًا وَلَا عَقْلًا، وَهُوَ الْمَعْنَى فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَيَسْتَحِقُّ بِهِ مَا يَجْرِي مِنَ الْحَيَوَانِ غَيْرِ الْعَاقِلِ، ثُمَّ النَّهْيُ عَنْ سَبِّ الدَّهْرِ تَنْبِيهٌ بِالْأَعْلَى عَلَى الْأَدْنَى، فَلَا يَسُبُّ شَيْئًا مُطْلَقًا إِلَّا مَا أَذِنَ الشَّرْعُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ وَاحِدَةٌ، وَاسْتُنْبِطَ مِنْهُ أَيْضًا مَنْعُ الْحِيلَةِ فِي الْبَيْعِ مِثْلَ الْعِينَةِ؛ لِأَنَّهُ نَهَى عَنْ سَبِّ الدَّهْرِ لِمَا يَئُولُ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَجَعَلَهُ سَبًّا لِخَالِقِهِ، انْتَهَى.
وَتَابَعَ مَالِكًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ بِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَابْنِ الْمُسَيَّبِ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِنَحْوِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute