للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

بِلَا تَنْوِينٍ ; لِأَنَّهُ صَارَ شَبِيهًا بِالْمُضَافِ، وَأَصْلُهُ لَا أَبَ لَكَ، وَظَاهِرُهُ الدُّعَاءُ عَلَيْهِ، لَكِنَّهُ عَلَى مَجَازِهِ لَا حَقِيقَتِهِ.

(فَالْمَاءُ وَالْكَلَأُ أَيْسَرُ) أَهْوَنُ (عَلَيَّ مِنَ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ) الْفِضَّةِ، أَيْ مِنْ إِنْفَاقِهِمَا لَهُمْ ; لِأَنَّهُ قَدْ يُعَارِضُهُ عَارِضٌ فِي مُهِمٍّ آخَرَ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَفِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ عُمَرُ مِنَ التُّقَى، وَأَنَّهُ لَا يَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُدَاهِنْ عُثْمَانَ، وَلَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَلَا آثَرَ الضُّعَفَاءَ وَالْمَسَاكِينِ، وَبَيَّنَ وَجْهَ ذَلِكَ، وَامْتَثَلَ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا حِمَى إِلَّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» "، يَعْنِي إِبِلَ الصَّدَقَةِ.

(وَايْمُ اللَّهِ إِنَّهُمْ) ، أَيْ أَرْبَابَ الْمَوَاشِي الْقَلِيلَةِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَقَرَأَهَا (لَيُرَوْنَ) ، بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ، أَيْ يَظُنُّونَ، وَبِفَتْحِهَا، أَيْ يَعْتَقِدُونَ (أَنْ قَدْ ظَلَمْتُهُمْ) قَالَ ابْنُ التِّينِ: يُرِيدُ أَرْبَابَ الْمَوَاشِي الْكَثِيرَةِ، قَالَ الْحَافِظُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ يُرِيدُ أَرْبَابَ الْمَوَاشِي الْقَلِيلَةِ لِأَنَّهُمُ الْمُعْظَمُ وَالْأَكْثَرُ، وَهُمْ أَهْلُ تِلْكَ الْبِلَادِ مِنْ بَوَادِي الْمَدِينَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ عُمَرَ: (إِنَّهَا لَبِلَادُهُمْ وَمِيَاهُهُمْ قَاتَلُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَسْلَمُوا عَلَيْهَا فِي الْإِسْلَامِ) ، فَكَانَتْ لَهُمْ، وَإِنَّمَا سَاغَ لِعُمَرَ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ كَانَ مَوَاتًا، فَحَمَاهُ لِنَعَمِ الصَّدَقَةِ، وَلِمَصْلَحَةِ عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ عَنْ مَعْنِ بْنِ عِيسَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عُمَرَ أَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، بِلَادُنَا قَاتَلْنَا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَسْلَمْنَا عَلَيْهَا فِي الْإِسْلَامِ، بِمَ تُحْمَى عَلَيْنَا؟ فَجَعَلَ عُمَرُ يَنْفُخُ وَيَفْتِلُ شَارِبَهُ.

وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْغَرَائِبِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ بِنَحْوِهِ، وَزَادَ: فَلَمَّا رَأَى الرَّجُلُ ذَلِكَ. . . إِلَخْ، فَلَمَّا أَكْثَرَ عَلَيْهِ قَالَ: الْمَالُ مَالُ اللَّهِ، وَالْعِبَادُ عِبَادُ اللَّهِ مَا أَنَا بِفَاعِلٍ.

وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: لَمْ يَدْخُلِ ابْنُ عَفَّانَ، وَلَا ابْنُ عَوْفٍ فِي قَوْلِهِ: قَاتَلُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَالْكَلَامُ عَائِدٌ عَلَى عُمُومِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَا عَلَيْهِمَا.

وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: إِنَّمَا قَالَ عُمَرُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَسْلَمُوا عَفْوًا، فَكَانَتْ أَمْوَالُهُمْ لَهُمْ، وَلِذَا سَاوَمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَنِي النَّجَّارِ بِمَكَانِ مَسْجِدِهِ، قَالَ: فَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الصُّلْحِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِأَرْضِهِ، وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْعَنْوَةِ، فَأَرْضُهُ لِلْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّ أَهْلَ الْعَنْوَةِ غُلِبُوا عَلَى بِلَادِهِمْ، كَمَا غُلِبُوا عَلَى أَمْوَالِهِمْ، بِخِلَافِ أَهْلِ الصُّلْحِ فِي ذَلِكَ.

وَفِي نَقْلِ الِاتِّفَاقِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَقُولُونَ: إِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَأَقَامَ بِهَا حَتَّى غَلَبَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا، فَهُوَ أَحَقُّ بِجَمِيعِ أَمْوَالِهِ، إِلَّا أَرْضَهُ وَعَقَارَهُ فَفَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَخَالَفَهُمْ أَبُو يُوسُفَ، فَوَافَقَ الْجُمْهُورَ، وَالْمُهَلَّبُ وَمَنْ بَعْدَهُ حَمَلُوا الْأَرْضَ عَلَى أَرْضِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الَّتِي أَسْلَمَ أَهْلُهَا، وَهِيَ فِي مِلْكِهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ ذَلِكَ هُنَا، وَإِنْ حَمَى عُمَرُ بَعْضَ الْمَوَاتِ مِمَّا فِيهِ نَبَاتٌ مِنْ غَيْرِ مُعَالِجَةِ أَحَدٍ، وَخَصَّ إِبِلَ الصَّدَقَةِ، وَخُيُولَ الْمُجَاهِدِينَ

<<  <  ج: ص:  >  >>