قَوْلِهِمْ: بَرَكَتِ الْإِبِلُ أَيْ ثَبَتَتْ عَلَى الْأَرْضِ، وَبِهِ جَزَمَ أَبُو الْيَمَنِ بْنُ عَسَاكِرَ فَقَالَ: وَبَارِكْ أَيْ أَثْبِتْ لَهُمْ وَأَدِمْ لَهُمْ مَا أَعْطَيْتَهُمْ مِنَ الشَّرَفِ وَالْكَرَامَةِ.
قَالَ السَّخَاوِيُّ: وَلَمْ يُصَرِّحْ أَحَدٌ بِوُجُوبِ قَوْلِهِ: وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ فِيمَا عَثَرْنَا عَلَيْهِ غَيْرَ أَنَّ ابْنَ حَزْمٍ ذَكَرَ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ وَجُوبُهَا فِي الْجُمْلَةِ، فَقَالَ: عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يُبَارِكَ عَلَيْهِ وَلَوْ مَرَّةً فِي الْعُمْرِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ صَاحِبِ الْمُغْنِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ وُجُوبُهَا فِي الصَّلَاةِ، قَالَ الْمَجْدُ الشِّيرَازِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْفُقَهَاءِ لَا يُوَافِقُ عَلَى ذَلِكَ.
( «كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ» ) فَعِيلٌ مِنَ الْحَمْدِ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ وَهُوَ مَنْ تُحْمَدُ ذَاتُهُ وَصِفَاتُهُ أَوِ الْمُسْتَحِقُّ لِذَلِكَ، أَوْ بِمَعْنَى حَامِدٍ أَيْ يَحْمَدُ أَفْعَالَ عِبَادِهِ حُوِّلَ لِلْمُبَالَغَةِ وَذَلِكَ مُنَاسِبٌ لِزِيَادَةِ الْإِفْضَالِ وَإِعْطَاءِ الْمُرَادِ مِنَ الْأُمُورِ الْعِظَامِ، (مَجِيدٌ) بِمَعْنَى مَاجِدٌ مِنَ الْمَجْدِ وَهُوَ الشَّرَفُ، وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّ الْمُشَبَّهَ دُونَ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَالْوَاقِعُ هُنَا عَكْسُهُ لِأَنَّ مُحَمَّدًا وَحْدَهُ أَفْضَلُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ وَآلِهِ، وَقَضِيَّةُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّلَاةَ الْمَطْلُوبَةَ لَهُ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ صَلَاةٍ حَصَلَتْ أَوْ تَحْصُلُ لِغَيْرِهِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ عِلْمِهِ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ.
وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ: " «أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ قَالَ: ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ» " وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لِغَيَّرَ صِفَةَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ بَعْدَ عِلْمِهِ أَنَّهُ أَفْضَلُ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَا تَلَازُمَ بَيْنَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ أَفْضَلُ وَبَيْنَ التَّغْيِيرِ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ ذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ نَقْصًا فِيهِ بَلِ التَّغْيِيرُ قَدْ يُوهِمُ نَقْصًا لِإِبْرَاهِيمَ، أَوْ قَالَ ذَلِكَ تَوَاضُعًا وَشَرْعًا لِأُمَّتِهِ لِيَكْتَسِبُوا بِهِ الْفَضِيلَةَ، أَوِ التَّشْبِيهُ إِنَّمَا هُوَ لِأَصْلِ الصَّلَاةِ بِأَصْلِ الصَّلَاةِ لَا لِلْقَدْرِ بِالْقَدْرِ كَقَوْلِهِ: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} [النساء: ١٦٣] (سُورَةُ النِّسَاءِ: الْآيَةُ ١٦٣) وَمِنْهُ {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: ٧٧] (سُورَةُ الْقَصَصِ: الْآيَةُ ٧٧) وَرَجَّحَهُ فِي الْمُفْهِمِ.
وَقَوْلُهُ: " «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ» " مَقْطُوعٌ عَنِ التَّشْبِيهِ فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِقَاعِدَةِ الْأُصُولِ فِي رُجُوعِ الْمُتَعَلِّقَاتِ إِلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ، وَبِأَنَّ التَّشْبِيهَ قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْآلِ، وَبِأَنَّ غَيْرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُسَاوُوا الْأَنْبِيَاءَ، فَكَيْفَ يَطْلُبُ لَهُمْ صَلَاةً مِثْلَ الصَّلَاةِ الَّتِي وَقَعَتْ لِإِبْرَاهِيمَ وَالْأَنْبِيَاءِ مِنْ آلِهِ؟ وَرُدَّ هَذَا بِأَنَّ الْمَطْلُوبَ الثَّوَابُ الْحَاصِلُ لَهُمْ لَا جَمِيعَ الصِّفَاتِ الَّتِي كَانَتْ سَبَبًا لِلثَّوَابِ، أَوْ أَنَّ كَوْنَ الْمُشَبَّهِ بِهِ أَرْفَعَ مِنَ الْمُشَبَّهِ لَا يَطَّرِدُ بَلْ قَدْ يَكُونُ بِالْمِثْلِ بَلْ بِالدُّونِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور: ٣٥] (سُورَةُ النُّورِ: الْآيَةُ ٣٥) وَأَيْنَ يَقَعُ نُورُ طَاقَةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ مِنْ نُورِ الْعَلِيمِ الْفَتَّاحِ؟ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْمُشَبَّهِ بِهِ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا ظَاهِرًا وَاضِحًا لِلسَّامِعِ حَسُنَ تَشْبِيهُ النُّورِ بِالْمِشْكَاةِ، وَكَذَا هُنَا لَمَّا كَانَ تَعْظِيمُ إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ مَشْهُورًا وَاضِحًا عِنْدَ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ حَسُنَ أَنْ يُطْلَبَ لِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ مِثْلَ مَا حَصَلَ لِإِبْرَاهِيمَ وَآلِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ خَتْمُ الطَّلَبِ الْمَذْكُورِ بِقَوْلِهِ فِي الْعَالَمِينَ، وَلِذَا لَمْ يَقَعْ فِي الْعَالَمِينَ إِلَّا فِي ذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute