تَقْدِيرَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ بِنَحْوِ الْبَقَرَةِ، وَالثَّانِي بِنَحْوِ آلِ عِمْرَانَ، وَالثَّالِثِ بِنَحْوِ النِّسَاءِ، وَالرَّابِعِ بِنَحْوِ الْمَائِدَةِ، وَلَا يَشْكُلُ بِأَنَّ الْمُخْتَارَ أَنَّ الْقِيَامَ الثَّالِثَ أَقْصَرُ مِنَ الثَّانِي، وَالنِّسَاءُ أَطْوَلُ مِنْ آلِ عِمْرَانَ؛ لِأَنَّهُ إِذَا أَسْرَعَ بِقِرَاءَتِهَا وَرَتَّلَ آلَ عِمْرَانَ كَانَتْ أَطْوَلَ، لَكِنْ تُعِقِّبَ بِأَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي ذَكَرَهُ لَا يُعْرَفُ، إِنَّمَا هُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ وَإِنْ كَانَ أَوَّلُهُ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْآتِي، نَعَمْ؛ لِلدَّارَقُطْنِيِّ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ قَرَأَ فِي الْأُولَى بِالْعَنْكَبُوتِ وَالرُّومِ وَفِي الثَّانِي بِـ يس.
(ثُمَّ انْصَرَفَ) مِنَ الصَّلَاةِ (وَقَدْ تَجَلَّتْ) بِفَوْقِيَّةٍ وَشَدِّ اللَّامِ (الشَّمْسُ) أَيْ: صَفَّتْ وَعَادَ نُورُهَا؛ أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهَا قَدْ تَجَلَّتْ قَبْلَ انْصِرَافِهِ.
فَفِي رِوَايَةِ ابْنِ شِهَابٍ: «وَانْجَلَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ» .
وَلِلنَّسَائِيِّ: ثُمَّ تَشَهَّدَ وَسَلَّمَ.
(فَخَطَبَ النَّاسَ) وَعَظَهُمْ وَذَكَّرَهُمْ وَأَعْلَمَهُمْ بِسَبَبِ الْكُسُوفِ، وَأَخْبَرَهُمْ بِإِبْطَالِ مَا كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَعْتَقِدُهُ.
(فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ) زَادَ النَّسَائِيُّ، عَنْ سَمُرَةَ: وَشَهِدَ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ.
وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِهِ الشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْخُطْبَةِ كَالْجُمُعَةِ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ لَا خُطْبَةَ لَهَا، نَعَمْ؛ يُسْتَحَبُّ الْوَعْظُ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَهُوَ الْمُرَادُ كَمَا مَرَّ؛ إِذْ لَيْسَ فِي الْأَحَادِيثِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُمَا خُطْبَتَانِ كَالْجُمُعَةِ وَإِنِ اشْتَمَلَتْ عَلَى الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ وَالْوَعْظِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَفِيهِ أَنَّ الِانْجِلَاءَ لَا يُسْقِطُ الْوَعْظَ بِخِلَافِ مَا لَوِ انْجَلَتْ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَيُسْقِطُهَا الْوَعْظُ، فَلَوْ تَجَلَّتْ فِي أَثْنَائِهَا فَفِي إِتْمَامِهَا عَلَى صِفَتِهَا أَوْ كَالنَّوَافِلِ الْمُعْتَادَةِ قَوْلَانِ.
(ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ» ) أَيْ: عَلَامَتَانِ (مِنْ آيَاتِ اللَّهِ) الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ تَعَالَى وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ، أَوْ عَلَى تَخْوِيفِ الْعِبَادِ مِنْ بَأْسِهِ وَسَطْوَتِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: ٥٩] (سُورَةُ الْإِسْرَاءِ: الْآيَةُ ٥٩) قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْحِكْمَةُ فِي هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ بَعْضَ الْجَاهِلِيَّةِ الضُّلَّالِ كَانُوا يُعَظِّمُونَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، فَبَيَّنَ أَنَّهُمَا آيَتَانِ مَخْلُوقَتَانِ لِلَّهِ لَا صُنْعَ لَهُمَا بَلْ هُمَا كَسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ يَطْرَأُ عَلَيْهِمَا النَّقْصُ وَالتَّغَيُّرُ كَغَيْرِهِمَا، زَادَ فِي رِوَايَةٍ: يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ.
(لَا يَخْسِفَانِ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ وَيَجُوزُ ضَمُّ أَوَّلِهِ، وَحَكَى ابْنُ الصَّلَاحِ مَنْعَهُ (لِمَوْتِ أَحَدٍ) وَذَلِكَ أَنَّ ابْنَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِبْرَاهِيمَ مَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ ذَلِكَ كَمَا فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ.
وَعِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ فَقَالَ النَّاسُ: إِنَّهَا كَسَفَتْ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ.
وَلِأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنَا خُزَيْمَةَ وَحِبَّانَ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ: «فَلَمَّا انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ فَزَعًا يَجُرُّ ثَوْبَهُ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ فَصَلَّى حَتَّى انْجَلَتْ، فَلَمَّا انْجَلَتْ قَالَ: إِنَّ النَّاسَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَنْكَسِفَانِ إِلَّا لِمَوْتِ عَظِيمٍ مِنَ الْعُظَمَاءِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ» .
وَفَائِدَةُ قَوْلِهِ: (وَلَا لِحَيَاتِهِ) مَعَ أَنَّ السِّيَاقَ إِنَّمَا وَرَدَ فِي حَقِّ مَنْ ظُنَّ أَنَّ ذَلِكَ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ وَلَمْ يَذْكُرُوا الْحَيَاةَ؛ دَفْعُ تَوَهُّمِ مَنْ يَقُولُ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ كَوْنِهِ سَبَبًا لِلْفَقْدِ أَنْ لَا يَكُونَ سَبَبًا لِلْإِيجَادِ فَعَمَّمَ لِدَفْعِ هَذَا التَّوَهُّمِ، وَفِيهِ مَا