كَانَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الشَّفَقَةِ عَلَى أُمَّتِهِ، وَشِدَّةِ الْخَوْفِ مِنْ رَبِّهِ، وَإِبْطَالِ مَا كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَعْتَقِدُ أَنَّ الْكُسُوفَ يُوجِبُ حُدُوثَ تَغَيُّرٍ بِالْأَرْضِ مِنْ مَوْتٍ أَوْ ضَرَرٍ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ اعْتِقَادٌ بَاطِلٌ، وَأَنَّهُمَا خَلْقَانِ مُسَخَّرَانِ لَا سُلْطَانَ لَهُمَا فِي غَيْرِهِمَا وَلَا قُدْرَةَ عَلَى الدَّفْعِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا.
(فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ) الْكُسُوفَ فِي أَحَدِهِمَا لِاسْتِحَالَةِ كُسُوفِهِمَا مَعًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ عَادَةً، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ (فَادْعُوا اللَّهَ وَكَبِّرُوا وَتَصَدَّقُوا) وَقَعَ الْأَمْرُ بِالصَّدَقَةِ فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ هَذِهِ دُونَ غَيْرِهَا.
قَالَ الْحَافِظُ: (ثُمَّ قَالَ: يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ) فِيهِ مَعْنَى الْإِشْفَاقِ كَمَا يُخَاطِبُ الْوَاحِدُ وَلَدَهُ إِذَا أَشْفَقَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: يَا بُنَيَّ، وَكَانَ قَضِيَّةُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: يَا أُمَّتِي لَكِنْ لِعُدُولِهِ عَنِ الْمُضْمَرِ إِلَى الْمُظْهَرِ حِكْمَةٌ، وَلَعَلَّهَا أَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَحْذِيرٍ وَتَخْوِيفٍ لِمَا فِي الْإِضَافَةِ إِلَى الْمُضْمَرِ مِنَ الْإِشْعَارِ بِالتَّكْرِيمِ، وَمِثْلُهُ: «يَا فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ إِلَى أَنْ قَالَ: لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا» .
(وَاللَّهِ) أَتَى بِالْيَمِينِ لِإِرَادَةِ تَأْكِيدِ الْخَبَرِ وَإِنْ كَانَ لَا يَرْتَابُ فِيهِ ( «مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرَ» ) بِالنَّصْبِ خَبَرٌ وَ " مِنْ " زَائِدَةٌ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ أَوْ هُوَ بِالْخَفْضِ بِالْفَتْحَةِ صِفَةٌ لِـ " أَحَدٍ "، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ؛ أَيْ: مَوْجُودٌ أَغْيَرَ (مِنَ اللَّهِ) أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ مِنَ الْغَيْرَةِ - بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ - وَهِيَ لُغَةٌ تَحْصُلُ مِنَ الْحَمِيَّةِ وَالْأَنَفَةِ، وَأَصْلُهُ فِي الزَّوْجَيْنِ وَالْأَهْلِينَ، وَذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ تَغَيُّرٍ وَنَقْصٍ، فَتَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى الْمَجَازِ، فَقِيلَ: لَمَّا كَانَتْ ثَمَرَةُ الْغَيْرَةِ صَوْنَ الْحَرِيمِ وَمَنْعَهُمْ وَزَجْرَ مَنْ يَقْصِدُ إِلَيْهِمْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ مِنْ فِعْلِ ذَلِكَ وَزَجَرَ فَاعِلَهُ وَتَوَعَّدَهُ، فَهُوَ مِنْ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ فُورَكَ: الْمَعْنَى مَا أَحَدٌ أَكْثَرُ زَجْرًا، عَنِ الْفَوَاحِشِ مِنَ اللَّهِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: غَيْرَةُ اللَّهِ مَا يُغَيِّرُ حَالَ الْعَاصِي بِانْتِقَامِهِ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَوْ فِي أَحَدِهِمَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: ١١] (سُورَةُ الرَّعْدِ: الْآيَةُ ١١) وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: أَهْلُ التَّنْزِيهِ فِي مِثْلِ هَذَا عَلَى قَوْلَيْنِ: إِمَّا سَاكِتٌ، وَإِمَّا مُئَوِّلٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْغَيْرَةِ شِدَّةُ الْمَنْعِ وَالْحِمَايَةِ، فَهُوَ مِنْ مَجَازِ الْمُلَازَمَةِ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ وَغَيْرُهُ: وَجْهُ اتِّصَالِ هَذَا بِقَوْلِهِ: فَاذْكُرُوا اللَّهَ. . . . إِلَخْ، مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ لَمَّا أُمِرُوا بِاسْتِدْفَاعِ الْبَلَاءِ بِالذِّكْرِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ نَاسَبَ رَدْعِهِمْ عَنِ الْمَعَاصِي الَّتِي هِيَ جَلْبُ الْبَلَاءِ، وَخُصَّ مِنْهُ الزِّنَى؛ لِأَنَّهُ أَعْظَمُهَا فِي ذَلِكَ.
وَقِيلَ: لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمَعْصِيَةُ مِنْ أَقْبَحِ الْمَعَاصِي وَأَشَدِّهَا تَأْثِيرًا فِي إِثَارَةِ النُّفُوسِ وَغَلَبَةِ الْغَضَبِ نَاسَبَ ذَلِكَ تَخْوِيفَهُمْ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ مُؤَاخَذَةِ رَبِّ الْعِزَّةِ (أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ) مُتَعَلِّقٌ بِأَغْيَرَ، وَحُذِفَ مِنْ قَبْلِ أَنَّ قِيَاسَهُ مُسْتَمِرٌّ وَتَخْصِيصَهُمَا بِالذِّكْرِ رِعَايَةٌ لِحُسْنِ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ لِتَنَزُّهِهِ عَنِ الزَّوْجَةِ وَالْأَهْلِ مِمَّنْ يَتَعَلَّقُ بِهِمُ الْغَيْرَةُ غَالِبًا، ثُمَّ كَرَّرَ النِّدَاءَ فَقَالَ: (يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ) وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الْوَاعِظَ يَنْبَغِي لَهُ حَالَ وَعْظِهِ أَنْ لَا يَأْتِي بِكَلَامٍ فِيهِ تَفْخِيمَ نَفْسِهِ، بَلْ يُبَالِغُ فِي التَّوَاضُعِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى انْتِفَاعِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute