للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وافتْ وثوبُ اللَّيلِ أسبل سترهُ ... حتى غدا كالثَّوبِ للعريانِ

هذا التشبيه عارٍ من لطف المعنى، وما أحقُّه أن يشبَّه بتشبيه الماء بالماء.

فضَممتُها ورشفتُ بردَ الثَّغرِ كي ... أُطفي بذلك حرقةَ الأشجانِ

باتتْ تعاطيني كؤوسَ حديثها ... وتُشَنِّفُ الأسماعَ بالألحانِ

بتنا على رغمِ الحسودِ بغبطةٍ ... وبفرحةٍ ومسرَّةٍ وأمانِ

حتَّى دنا الفجرُ المنيرُ فراعني ... شيبٌ برأسِ اللَّيلِ نحوي دانِ

قلت: هذا شعر دعاني إلى إيراده صدق العهد، والعناية بالود الذي هو خلقي من حين لفظني المهد.

أبو بكر، المعروف بغصين البان ما لقِّب بالغصين إلا لنضرة نمائه، ورقَّة طبعه الذي يكاد يقطر من كثرة مائه.

وهو المعنيُّ بكثرة الموشَّحات، التي يتغنَّى بها في كل حضرة، والمطلع منها ما يستغني به مشاهدة الشكل الحسن عن الماء والخضرة.

وليس يحضرني من شعره إلا ما تراه، وتتمايل به طرباً كالغصن يتمايل للصَّبا عند مسراه.

فمن ذلك قوله، ويخرج منه اسم داود بطريق التعمية:

رنا فأثبتَ سهماً من لواحِظهِ ... في مُهجتي ذو قوامٍ يافعٍ نضرِ

وراحَ يسحبُ ذيلَ العجبِ مُلتفتاً ... في تيههِ ومضى والقلبُ في خطرِ

وقوله في اسم رمضان:

وشادنٍ من بني الأتراكِ مُعتدلٍ ... وافى وفِي وجههِ خالٌ لمن رَمقا

له عِذارٌ بنارِ الخدِّ مُمتزِجٌ ... قد هِمتُ فيه ولا عارٌ لمن عشِقا

عمر بن محمد، المعروف بابن الصُّغَيِّر خليفة أبي بكر العمري وحليفه، وزميله في التَّعارض بالقريض وأليفه.

ومن اغترف من محلِّ غرفه، وهبّ عاطر الأنفاس بعرفه.

والنَّسيم يطيب إذا مرَّ بروضٍ أنضر، ومن صحب العطار لا يخلو من أن يتعطَّر.

وهو في الشعر مكثر مجيد، ومحلِّي نحرٍ للأدب وجيد.

إلا أنه أعربت محاسنه عن ناطقٍ مُعرِب، وطارت بأغلب أشعاره عنقاء مُغرب.

فمما بلغني من شعره. قوله معمِّياً باسم خالد:

مذْ رقَّ ماءٌ للجمالِ بوجنةٍ ... كالوردِ في الأغصانِ كلَّلهُ النَّدى

وتمثَّلتْ أهدابنا فيه فظنُّ ... وهُ والعذارَ ولا عذارَ به بدا

وهذا المعنى متداول من قول بعضهم:

أعِدْ نظراً فما في الخدِّ نبتٌ ... حماهُ الله من ريبِ المنونِ

ولكن رقَّ ماءُ الحسنِ حتَّى ... أراكَ خيالَ أهدابِ الجفونِ

وزاد الأمير المنجكي، وأحسن في قوله:

لمَّا صفتْ مرآةُ وجهكَ أيقنتْ ... أهوايَ أنِّي عُدتُ فيه خَيالا

فحسبتُ أهدابي بخدِّكَ عارضاً ... وظننتُ إنساني بخدِّكَ خَالا

وللمترجم، ويخرج منه اسم علوان:

فديتُ حبيباً زارني بعد صدِّه ... ومن ريقهَ واللَّحظِِ حيَّى بقرْقَفِ

سقاني ثلاثاً يا خليلي وإنَّها ... شفاءٌ لذي سُقمٍ وراحةُ مُدنفِ

وله، ويخرج منه اسم سليمان:

رأى عاذلي مُنيتي ري في ... إزارٍ فحيَّد عن نَهجها

وقد لام في مثلِ عشقي لها ... وما شاهدَ الخالَ في وجهها

ومما نسبه البديعي إليه، وأظنُّه مغصوباً عليه، قوله:

أفدي الذي دخلَ الحمَّامَ مُتَّزراُ ... بأسودٍ وبليلِ الشَّعرِ مُلتحفا

دقُّوا بطاساتهمْ لمَّا رأوهُ بدا ... توهُّماً أنَّ بدرَ التمِّ قد كُسفا

وهذا تخيل حسن، أجاد فيه وأحسن.

وأصله ما اشتهر في بلاد العجم أن القمر إذا خسف يضربون على النُّحاس، حتى يرتفع الصَّوت زاعمين بذلك أنه يكون سبباً لجلاء الخسوف، وظهور الضوء، هكذا قاله بعض الأدباء.

والذي ثبت في أصله ما نقله غير واحدٍ، أن هُلاكو ملك التتار، لما قبض على النصير الطوسي، وأمر بقتله لإخباره ببعض المغيَّبات.

فقال له النَّصير: في الليلة الفلانية في الوقت الفلاني يخسف القمر.

فقال هُلاكو: احبسوه، إن صدق أطلقناه وأحسنَّا إليه، وإن كذب قتلناه.

فحبس إلى الليلة المذكورة، فخسف القمر خسوفاً بالغاً.

واتفق أن هُلاكو غلب عليه السُّكر تلك الليلة، فنام، ولم يجسر أحد على إنباهه.

<<  <  ج: ص:  >  >>