فقيل للنصير ذلك. فقال: إن لم ير القمر بعينيه، وإلا فأصبح مقتولاً لا محالة.
وفكر ساعةً، ثم قال للمغل: دقُّوا على الطاسات، وإلا يذهب قمركم إلى يوم القيامة.
فشرع كلُّ واحدٍ يدقُّ على طاسته، فعظمت الغوغاء، فانتبه هُلاكو بهذه الحيلة، ورأى القمر قد خسف، فصدقه، وبقي ذلك إلى يومنا.
ومن اللطائف أن أديباً من العجم، وقد خفي عني اسمه واستعجم.
كان صحبته أميرٌ كبير، في روضٍ يتفتَّق عن عبير.
وبه بركة ما، أصفى من ريقة ألمى.
يحفُّها طائفةٌ من الغلمان، هذبت باللطف طباعها، وتركت بحكم صورها الجميلة في الأجسام الصقيلة انطباعها.
وفيهم فتًى زائد الاشتهار، كالبدر إلا أنه يبقى على ضوء النهار.
فحيَّاهما بجامه، ووقف يثير شَجوَها برقَّته وانسجامه.
والبركة قد انعكست فيها تلك الصور الظَّواهر، فتخالها نجوماً وهو بينها القمر الزاهر.
فخامرت الأديب من خياله سورة، وتخيل أن البدر يهديه نوره.
ففطن الأمير للأمر الذي وضح، وحرك الماء بقضيبٍ فانمحى الخيال الذي فضح.
فدقَّ ذلك الأديب على طاسٍ حتى روى غلَّة الصدر، فسأله الأمير عن سرِّ ذلك، فقال: هذه عادتنا إذا خسف البدر.
وأبدع من ذلك وأطرب، ما حكاه العمري شيخ الأدب.
أنه كان بدمشق في بيت قهوة، مُقيماً لرسم حظٍّ ونشوة.
وإلى جانبه أديبٌ يأنس الفكر بآدابه، ويتعلق الظَّرف بأهدابه.
وبينهما حديثٌ يفاوح زهر الربى، ويطارح نغم حمام الأيك مطرباً.
إذا ببدرٍ حسن فارق فلكه، وسقط لا يدري أيَّ مسلكٍ سلكه.
حتى إذا دنا منهما وقف واستوقف، واختلس الألباب جذباً إليه وما توقف.
فطفقا يسرحان في محاسنه المعابي ويجيلان الألفاظ، وبحكم الهوى يمدان الأيدي ويشيران بالألحاظ.
فما رددا وجهاً ولا عطفا، ولا جنيا ورداً بالَّلحظ ولا قطفا.
حتى غشيهما شخصٌ مهول المنظر في ذاته، إذا رأى الطَّرف شخصه، أحال الله بينه وبين لذَّاته.
فحال بينهما وبين ذلك البدر التمام، وحجبه عنهما كما يحجب البدر الغمام.
فقال ذلك النديم: هذا خسوف عسى الله يُؤذن بزواله، ونسأله أن يدفع عنا عقبى مصائبه وأهواله.
ثم نظر إلى ذلك الشخص وقد كشف رأسه، فإذا هو أقرع كأنما رأسه طاسه.
فقال العمري: الآن تم التخيُّل من كل جهة.
ثم أخذ القلم، وكتب على البديهة.
حبس البدرُ أقرعٌ عن عيوني ... فغدا الطَّرفُ خاسئاً مطروفا
فتناولتُ رأسهُ لِصفاعٍ ... بنعالي، وصنتُ عنه الكُفوفا
قال لي اللاَّئمونَ كُفَّ فنا ... ديتُ دعوني وأقصروا التعنيفا
عادةُ البدرِ ينجلي ليلةَ ال ... خسفِ بدقِّ النُّحاس دقاًّ عنيفا
وتراءيتْ طاسةٌ فجعلتُ الصَّ ... فعَ دقاًّ فكان عذراً لطيفا
أحمد بن محمد الصفدي، إمام الدَّرويشيَّة صفد، وإن كانت صدف هذه الدُّرة، فقد طلعت في جهة دمشق منها غرة، وأحسن بها من غرة.
وبالتنقل ترتقي ذوات الأصداف إلى الأعناق، ويعلو تراب الأحجار إلى نور الأحداق.
وهذا الأديب ممن صحبته دهراً، واختبرت خلائقه سرأ وجهراً.
فلم أر مثله رجلاً مأمون الصحبة، ميمون النفس والمحبة.
حلمه هضبةٌ لا تستخفُّها الخدع، وعلمه علامةٌ لا تستفزُّها البدع.
إن هززته لمكرمة ارجحنَّ، أو ذكَّرته بحسن عهدٍ حنّ.
فكنت أتوارد معه على مفاكهة إذا جليت فما الرَّاح والتُّفاح، وإذا ذكرت فما ريحان الأصداغ إذا فاح.
وهو من مكثري شعراء العصر ومجيديهم، وإن لم يكن من مكثريهم بالعوائد ومجتديهم.
ليس لأحدٍ منهم عشر شعره، إلا أنه منفقٌ منه على قدر سعره.
وقد أطلعني على ديوانه المنتخب، الذي ضمنه نخب النخب.
فجردت منه ما يعبق عبقة المسك الفتيت، ويفوه عن ثغرٍ ألمى معسول الرُّضاب شتيب.
فمنه قوله، في الغزل:
راح يثني عِطفه مرحا ... أيُّ صبٍّ من هواه صحا
مفردٌ في الحسنِ ليس له ... من شبيهٍ فاق شمسَ ضُحى
ينجلي في ليلِ طُرَّته ... منه مسكُ الخال قد نفحا
خدَّه وردٌ ومقلتُه ... نرجسٌ يسقي النُّهى قدحَا
مهجتي في حبِّه تَلِفتْ ... واصطباري في الهوى نزحا