واحدُ الدهرِ في المعالي فريدٌ ... ماجدٌ في مقالهِ مصداقُ
إن قلبي ومهجتي وفؤادي ... وجميعي لذاته أشواقُ
دام في المجدِ راقياً لمعالٍ ... ما تعالت شمسٌ لها إشراقُ
فكتبت إليه جواباً، وصدَّرته بقولي:
كيف تُنبي عن شوقيَ الأوراقُ ... وهي مثلي جميعها أشواقُ
ضاق عن حصر ما نلاقي نطاقُ ال ... وُسعِ فيمن فراقه لا يطاقُ
روضُ فضلٍ ألفاظه زاهراتٌ ... بعثتْ طيبَ عرفها الأخلاقُ
فسقى عهدَ ودِّه الخصيبَ رق ... راقُ الغوادي ودمعي الدفَّاقُ
حيث كنَّا وللزمانِ انعطافٌ ... وائتلافٌ ما بيننا واعتلاقُ
وبدورٍ كواملٍ ليس إلا ... في الخصورِ الرِّقاقِ منها محاقُ
أشرقتني بالدمعِ مذ غرَّبتني ... لا لأمرٍ بل شأنها الإشراقُ
يا رفيقي ولا أقول رفيقي ... لسِوى من طباعُه الإرفاقُ
كن نصيري على البعادِ فحسبي ... منه مالا تقوى له العشَّاقُ
فلأنتَ المعينُ إن عنَّ خطبٌ ... وإليك الحديثُ منه يساقُ
وابقَ واسلمْ ما حنَّ إلفٌ لإلفٍ ... ودنا نحوَ حبِّه مشتاقُ
وكنت وأنا بالروم وردَها، فأنشدته قصيدة مدحت بها الشريف أحمد بن زيد، مطلعها:
يجوبُ الأرضَ من طلب الكمالا ... ومن صحب القَنا بلغ السُّؤالا
فعارضها بقصيدة في مدح الشريف المذكور، وأنشدنيها، فلم يعلق في خاطري منها إلا قوله، في غزلها:
تسربَل من مهابتِه جلالا ... وأشرق وجهُه الباهي جمالا
وأصبح رافلاً في لا زوردٍ ... يتيه على محبِّيه دلالا
وماس بقامة غصناً رطيباً ... وأرسل من لواحظهِ نبالا
رقيقُ الخصر ذو طرفٍ كحيلٍ ... لعمرُ أبيك يأبى الإكتحالا
جَنيُّ الورد في خدَّيه أضحى ... وحارسُه النَّجاشي صار خالا
ترقرق فيه ماءُ الحسن حتى ... ترى ناسُوتَه ماءً زُلالا
وأنشدني قوله:
إذا عانقتُ من أهواهُ يوماً ... وكان القصدُ تقبيلاً بفيهِ
ملكتُ عنانَ نفسي عن هواها ... وإن تكُ كلَّ وقتٍ تشتهيهِ
ولما مات، قلت أرثيه:
لهفي على الصَّفديِّ فردُ الدهرِ من ... لعُلاه كفُّ المكرُمات تشيرُ
طودُ الفضائلِ دكَّه حكم القضا ... فالأرضُ من أقصى التُّخوم تمورُ
فانظر تجد عجباً وقد ساروا به ... جبلاً غدا فوق الرجالِ يسيرُ
هذا المعنى مما تداولته الشعراء، ولكن لم يقصدوا ما قصدته من الإشارة لعظم الجثة فإنَّ قصدهم ليس إلا التوصيف بالحلم.
فمنهم المتنبي في قوله:
ما كنتُ آمل قبل نعشِكَ أن أرى ... رضوَى على أيدي الرجال يسيرُ
وابن المعتز في قوله:
قد ذهب الناسُ ومات الكمالْ ... وصاح صرفُ الدهر أين الرِّجالْ
هذا أبو العباس في نعشه ... قوموا انظروا كيف تسيرُ الجبالْ
وأصله قول النابغة الذبياني:
يقولون حصنٌ ثم تأبَى نفوسُهم ... فكيف بحصنٍ والجبالٌ جنوحُ
وقد أبدع الشهاب في قوله:
قيامةٌ قامتْ بموتِ الذي ... بِموتِه ماتَ النَّدى والكمالْ
فإن شَككْتُم فانظروا نعشَه ... وشاهدوا كيف تسير الجبالْ
زين الدين بن أحمد البُصرَوِي هو لِذات الأدب زين، وبه ينجلي عن القلب كلُّ رَين.
وكان صحيبي من منذ سنين، ولا أعدُّه في العِشرة إلا من المحسنين.
مثابتُه عندي مثابَة الروض العاطر، ومحلُّه من وُدِّي محلُّ القلب والخاطر.
أذكره فأرتاح ارتياحة القضُب المُلْد، وأتذكَّره فأشتاق إلى النعيم وجنَّة الخلد.
وهو من لُطف الذات، وشفوف الخِصال المستلذَّات.
ممن تتحاسد عليه الأسماع والعيون، ويُشترى يوم وصلِه بنومِ الجفون.
وقد فقدتُه أولاً فقْدَ غُربة، ثم غيَّبتْه الغُربة غيبة تُربة.