وعبير ذكرهم المردَّد، ولسان حالهم المجدَّد.
يروقك مجتلاه، ومحلُّه يهزأ بالبدر معتلاه.
كرم فرعاً وأصلا، وشرف جنساً وفصلا.
وله فضلٌ أضحى تاجاً لرأس المناقب، وأدبٌ تتوقَّد به نجوم الليل الثَّواقب.
وبيني وبينه موالاة محققة، وعهود موثَّقة، وثناءٌ كمائمه عن أذكى من الزَّهر غِبَّ القطر مفتَّقة.
ورأيت له أشعاراً في الذروة من الانطباع ثاوية، لها في كلِّ قلبٍ بلطف موقعها خلوةٌ في زاوية.
وقد أثبتُّ منها قصيدةً شطَّر بها سينيَّة ابن الفارض، فناصفها شطر الحسن، كما تناصف حسن الخدِّ بالعارض. وهي هذه:
قفْ بالديارِ وحيِّي الأربُعَ الدُّرُسَا ... مخاطِباً لرَسيسِ الشوقِ مُقتبِسَا
واسْترجِع القولَ يا ذا الرَّأيِ مُختبِراً ... ونادِها فعساها أن تُجيبَ عسَى
وإن أجنَّك ليلٌ من توحُّشِها ... فلا تكنْ آيِساً لا كان من أيِسَا
خذْ من زِنادِ الجوَى ناراً مُشعْشعةً ... فاشْعلْ من الشوقِ في ظَلمائِها قبَسَا
يا هل درَى النَّفَرُ الغادُون عن كَلِفٍ ... موَلَّهٍ هائمٍ كاسَ الغرامِ حَسَا
تَراه مستصْحِبَ الأفكارِ ذا حُرَقٍ ... يبيتُ جُنحَ الليالي يرقُب الغلَسَا
فإن بكَى في قِفارٍ خِلتَها لُجَجاً ... ما شامَها ناظِرٌ إلاَّ همَى وجَسَا
وإن خبَتْ نارُه هاجَ الغرامُ بهِ ... وإن تنفَّس عادتْ كلُّها يَبَسَا
فذو المحاسنِ لا تُحصَى محاسنُه ... إذا رآه عَذولٌ حاسدٌ خَنَسَا
ومن أبَيْت فلا فَقْد لوَحشتِهِ ... وبارعُ الأُنسِ أعْدَمْ بهِ أنُسَا
قد زارني والدجَى يرْبَدُّ من حَنَقٍ ... وحُسنُ إشراقِه بالشُهْبِ قد حُرِسَا
فالزُّهر تَرمُقُه عُجْباً برونَقِهِ ... والزَّهرُ يبْسَم عن وجهِ الدُّجَى عَبَسَا
وابْتزَّ قلبيَ قَسراً قلتُ مظْلمَةً ... فحسبِيَ اللهُ ممَّن قد جنَا وقَسَا
حيَّرْتني فأنا المُحتارُ وا أسفِي ... يا حاكمَ الحبِّ هذا القلب لمْ حُبِسَا
زرعتُ باللَّحظِ ورْداً فوق وَجنتِه ... فأثمرتْ منه لي في ناظِرَيهِ أسَى
إن رمتُ أقطفُ منه عِطرَ رائِحةٍ ... حقٍّا لِطرفيَ أن يجنِي الذي غرَسَا
وإن أبَى فالأقاحِي منه لي عِوَضٌ ... أوْردْتُه القلبَ حيث الحبُّ فيه رَسَا
جعلتُه رأس مالِي مذْ ربحتُ به ... مَن عُوِّض الثَّغرَ عن درٍّ فما بُخِسَا
إن صال صِلُّ عِذارَيْه فلا حَرَجٌ ... أن عادَ منه صحيحُ الجسم مُنتكسَا
فهذه سُنَّةٌ للعِشقِ واجبةٌ ... أن يَجْنِ لسعاً وأنِّي أجْتنِي لَعَسَا
كم باتَ طَوعَ يدِي والوصلُ يجمعُنا ... لم يخْطُر السُّوءُ في قلبِي ولا هَجَسَا
وزادنِي عِفَّةً إذْ كان ذا ثِقةٍ ... في بُردتيْه التُّقى لا يعرف الدَّنسَا
تلك الليالي التي أعددْتُ من عُمُري ... يا ليْتها بقِيتْ والدهرُ ما نُكِسَا
ويا سقَى الله أيَّماً لنا سلَفتْ ... مع الأحِبَّةِ كانت كلُّها عُرسَا
لم يحلُ للعينِ شيءٌ بعد فُرْقتهم ... وما صَبَا دونها صَبُّ الجَوَى ونَسَا
ولا شمَمْتُ نسيماً أستلِذُّ به ... والقلبُ مذ آنسَ التَّذكار ما أنِسَا
يا جنَّةً فارَقَتْها النفسُ مُكرهَةً ... أبْقِي لصَبِّك في نيلِ المنَى نفَسَا
وحَقِّ مُوثَقِ عهدٍ لا انْفِكاكَ له ... لولا التَّآسِي بدار الخُلدِ مِتُّ أسَى
أحمد بن محمد الهمنداري الحلبي المفتي اتَّخذ الثُّريَّا مصعدا، وورد المجرَّة مقعدا.
ثم طلع شنباً فكان في ثغر الشام، وهبَّ نسيماً فحرَّك طرباً أغصان البشام.