للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واستقرَّ بروضها الزاهر، استقرار الغمض في الجفن الساهر.

فقيَّد الأعين بصفاته، كما عقل الأفكار بلحظه والتفاته.

وهو نسيج وحده استيلاءً على الفضل واشتمالا، ووحيد نسجه إبداعاً لتحائف المقول واعتماله.

يتحلَّى بخلق لو كان للروض ما ذبل في الشتاء نوره، وفكرٍ لا يُدرك غوره.

وحلم ما شيب بوهم، وتثبُّتٍ لم يخفَّ له وزن.

يصعب إغضابه ويسهل استرضاؤه، ويفيض إقباله ولا يتوقع إغضاؤه.

ويقرب الزمن في عطفه، ولا يتراخى المدى إلى لطفه.

وهناك أدبٌ بسلسل الرقَّة يتدفَّق، وطبعٍ عن زهر الرياض يتفتَّق.

فإذا تفوَّه بسطت الحجور لالتقاط لآليه، وإذا أملى ترك الملأ إملاء أماليه.

وهو أحد من حضرتُ عنده، واقْتدحتُ في الاستفادة زنده.

وكان هو وأبي عقيدي صحبة، وأليفي مودَّة ومحبَّة.

وبينهما لحمةٌ ليست سدَى، واتِّفاق ليس إلا ببرد فضل وندى.

وكان أبي يقول فيه: لم أر مثله كثرة إناءة، وتجنُّب بذاءة وإساءة.

وتناسب ذاتٍ ونعت، وتوافق سجيَّةٍ وسمت.

تروق أنوار خلاله، وأدبه تتنَّفس الرياض في خلاله.

وقد أوردتُ له من شعره الرَّقيق، ما هو أعذب من ريق الندى في ثغور الشَّقيق.

فمن ذلك قوله من قصيدة مطلعها:

دون رشفِ اللِّمى وضَمِّ النُهودِ ... طَعَناتُ المثقَّفِ الأُملودِ

واقْتِحام المَنونِ أجدرُ إنْ ... أعقبَ وصلاً بحال كل لَمِيدِ

مُهَجُ العاشقين منذ قديمٍ ... خلُصتْ للبلاءِ والتَّنكيدِ

من لقلبي بأغْيدٍ قصَم القلْ ... بَ بعَضبٍ من اللِّحاظِ حديدِ

ألِفَ النُّفرةَ التي تعقِل العَقْ ... لَ وتُذري الدموعَ فوق الخُدودِ

وكتب إلى والدي:

حيَّتْك فضلَ اللهِ دِي ... مةُ سُؤدُدٍ نشأتْ بمجدِكْ

وعلَتْك أنوارُ السَّعا ... دةِ فاغتنمْ إشراقَ سعْدِكْ

وكذا الفضائِلُ والفوا ... ضِلُ والمكارمُ حَشْوُ بُردِكْ

أما القريضُ ونسجُه ... فلأنتَ فيه نسيجُ وحْدِكْ

بك جِلَّقٌ فخَرتْ كما ... بأبيك قد فَخَرتْ وجَدِّكْ

مولايَ فكرِي قاصِرٌ ... عن أن يُحيط بكُنْهِ حَدِّكْ

فاعْذُرْ ودُمْ بمَسرَّةٍ ... تبقَى على الدُّنيا كوُدِّكْ

فراجعه بقوله:

هل زهرُ روضٍ أم زَوا ... هرُ أنجُمٍ أو دُرُّ عِقدِكْ

أم روضةٌ قد فاح من ... رَيَّا رُباها عَرْفُ نَدِّكْ

أم ذي بدورٌ أشرقتْ ... في حيِّنا من أُفقِ سَعْدِكْ

يا مُفردَ العصرِ الذي ... لم تسمحِ الشَّهْبا بنِدِّكْ

أنت الذي افْتخرتْ بفضْ ... لِك أهلُها من عصرِ مهْدِكْ

ولك المعارفُ والعوا ... رِفُ واللَّطائفُ قَدْحُ زَنْدِكْ

أرسلتَ نحويَ غادةً ... ألفاظُها شهِدتْ بشُهْدِكْ

حيَّتْ فأحْيتْ مُغْرماً ... قد كان منتظِراً لوعْدِكْ

وإليك منِّي روضةً ... بالوُدِّ ذاكِيةً بحمْدِكْ

وافتْ على ظمَأٍ بها ... تبغِي الوُرودَ لِعذْبِ وِرْدِكْ

فاقْبل بفضلِك عُذرَ من ... يرعَى الوفَا بوَثيقِ عهْدِكْ

ودعاه الخطيب المحاسني إلى داره، وقمر سعدِه إذ ذاك في إبدراه.

فلما طابق خبر المجلس مخْبَرَه، وأطلق فيه عوده وعنبره. أنشد بديهاً:

قد حلَلْنا بمنزلٍ فاق حُسناً ... وبهاءً وحازَ لُطفاً عجيبا

ضاعَ مِسكاً وكيف يُنكَر هذا ... منذ ضَمَّ الخطيبَ ضُمِّخَ طِيبا

وقد تناول هذا الجِناس من قول بعضهم:

مُلِئَ المنبرُ مسكاً ... مذْ به قمتَ خطيبَا

أتُرى ضَمَّ خطيباً ... منك أم ضُمِّخَ طِيبَا

وأنشدني من لفظه لنفسه معنًى ما زلت أحَمِّق به فكري، وأتمنَّى لو كان لي بكلِّ شعري، وهو هذا:

مذ رأى الوردُ على أغصانِه ... خَدَّ من أهواه في الروضِ الأنِيقْ

صار مُغمًى فلطِيف الطَّلِّ قدْ ... رُشَّ في وَجنتيه كي يستفيقْ

<<  <  ج: ص:  >  >>