وقلت أمدحه:
يدُ ابنُ أحمدٍ وفضلُ أحمدِ ... تُعلِّم الناس طريق الرَّشَدِ
لولاه أصبح الوجودُ عاطلاً ... ولم يَبِنْ في الدهرِ طيبُ المَحْتِدِ
مُفتِي دمشقَ الحَبْرُ من صفاتُه ... ألذُّ من وصلِ الحسانِ الخُرَّدِ
مَن عنده اللَّذةُ إدراكُ المَنى ... وأنكَرُ الأصواتِ صوتُ مَعْبَدِ
لا يعلم الهزلَ ولا يحبُّه ... ولا يميلُ طبعُه إلى الدَّدِ
تُسهرِهُ الأفكارُ في مفاخرٍ ... يُبْدعها أو مَكْرُماتٍ يبتَدِي
ينظِم منثوراتِها فهي على ... جِيدِ العُلى كاللُّؤلؤِ المُنَضَّدِ
مذْ حلَّ في بلدتِنا رِكابُه ... هدِيَ به من لم يكنْ بالمهْتَدِي
وأصلحَ الناسَ صلاحُ سِرِّه ... فليس من حدٍّ بها أو قَوَدِ
يا جِلَّقَ الشامِ سَقاكِ عارِضٌ ... من فضله يُمْطِر صَوْب العسْجَدِ
ما أنتِ إلا في البِقاعِ مثلُه ... في العُلَماءِ أوْحدٌ لأوحَدِ
ما شرَّف الدِيارَ غيرُ أهلِها ... أحِلْيَةُ العيونِ غيرُ الإثْمِدِ
ما مصرُ إلا حيث حلَّ يوسفٌ ... لا نسَبٌ بين امرِئٍ ومعهَدِ
إن صدقَ الظَّنُّ فقُرْبُ رُتبةٍ ... من رُتبةٍ كبلدٍ من بلَدِ
أنْجب فينا غُصنَ فضلٍ مُثْمِراً ... بالمعلوات والنَّدى والسُّؤدُدِ
تشابَه الغُصنُ وروضُه وقدْ ... يظهر في الوالدِ سِرُّ الولَدِ
حكاه في عفَّتِه وفضلِه ... والشِّبْلُ في المخْبرِ مثل الأسدِ
لا برِحَا في عِزَّةٍ دائمةٍ ... لا تنْقضي ما بقِيَا للأبدِ
فإن في بُقْياهما صَوْنَ العُلى ... عن أن تُمَسَّ بيدٍ لأحَدِ
إبراهيم بن منصور الفتَّال شيخ الشيوخ ومعترفهم، وبحر العلماء ومغترفهم.
أما العلم فمنه وإليه، ومعوَّل أرباب فنونه عليه.
وأما الأدب فله فيه التَّبريز، وإذا كان غيره فيه الشِّيةُ فهو الذهب الإبريز.
وله المنطق الذي يسحر العقول، والفكر الذي يصدأ عنه الفِرندُ المصقول.
مع حديثٍ لا يُمل، ومنظرٍ يملأ عيني من تأمل.
تتنافس في مجلسه دررٌ لوامع وحِلًى جِياد، فلا تعلَّق فيه إلا أقراطٌ بآذان وقلائدٌ بأجياد.
وطبعه يعير سحره عيون الحور، ويفضح بعقود آثاره دُرر البجور.
تبتسم الفضائل عن آثاره، وتتفتَّح ثغورها بلوامع إيثاره.
وقد ألقى الله عليه منه محبَّة، جلبت إليه مسْرَى القبول ومهبَّه.
فلا تزال الأعين تحدِّق إلى محيَّاه، والألسن تدعو بانفساح مَحْياه.
وراحته مخدومةٌ بالقُبل، وعيشه أنضر من الربيع المقتبل.
تودُّ كؤوس الراح في أفراحها، لو تعوَّضت بلحظة أُنسِه عن راحِها.
وإذا ذُكر فالقلوب على ثنائه ذات اتِّفاق، وخبرُ فضلِه إذا تُلىَ سَمَر القوادِم وحديث الرِّفاق.
وما أنا في ترنُّمي بذكره، وتعطُّري بحمده وشكره.
إلا النسيم على الحديقة بريَّاه، والصبح بشَّر بالشمس ضوءُ مُحيَّاه.
ولي فيه ما لم يقُلْ شاعرٌ ... وما لم يَسِرْ قمرٌ حيث سارَا
وهُنَّ إذا سرنَ من مِقوَلي ... وثَبنَ الجبالَ وخُضنَ البحارا
فإنه الذي ضربت بحضرته أطناب عمري، وأنفقت على فائدته أيام دهري.
وتروَّيت من المعرفة بروائع كلامه، وملأت سمعي درُّ الأصداف من آثار أقلامه.
وكان ينوِّه بي ويشيع أدبي، وبالجملة فكان لي مكان أبي.
فأنا من حين فقدته فقدت كهفا آوى إليه، وسنداً أُعوِّل في المآرب عليه.
فحُقَّ لفؤادي أن يستعر بوقده، ولدمعي أن يسيل دماً على فقده.
وأسأل الله أن يزلفه من رحمته ويدنيه، ويقطفه زهر رضوانه ويجنيه.
فمما تناولته من نظمه، قوله في مديح صاحب الشَّفاعة، صلى الله عليه وسلم:
كلُّنا سيِّدي إليك نؤوبُ ... ما لنا لا نعي اللِّقا ونتوبُ
إنَّ عمرَ الشبابِ ولَّى وأبقى ... ما جناه فيه وذاك الذُّنوبُ
فإلى كم هذا التَّواني وقد جا ... ءَ نذيرُ الحِمام وهو المَشيبُ