وأهدتْ لنا من بحر طبعِك لُؤْلُؤاً ... على الطِّرسِ حتى كاد يُلقَط باليدِ
منها:
فأسْلْفتُك الإعظامَ والودَّ مُوفِياً ... حقوقَ مَعاليك التي لم تُعدَّدِ
وقدَّمتُ من فكرِي إليك أَلُوكةً ... حَبَتْكَ بمْغبوطٍ من المدح سَرْمَدِ
تُخبِّر عمَّا في القلوب من الجوَى ... ويأْتِيك بالأخبارِ من لم تُزوِّدِ
فأوجِبْ لها حقاً وأنْعِم بمثلها ... وعِضْني بنظمٍ من عقودك يحُمدِ
أُروِّى بها من لاعج الشوق والنوى ... غليلَ فوادٍ بالصَّبابة مُكْمَدِ
منها:
فأنت لْجَفن الدهر سيفٌ وناظرٌ ... ولولاك لم يُبِصرْ ولم يتقلَّدِ
ثم أعقبها بقطعة من نثره، وهي: حامل لواء النظم والنثر، حامي بيضته عن الصدع والكسر.
محل استواء شمس الكرم، العاصر بمجده عنقود الثريا تحت القدم.
واسطة قلادة الفضائل وعقد نظامها، وبيت قصيدة الآداب ورونق كلامها.
جناب الأمير ابن الأمير، والعطر ابن العبير.
لا برحت ظلال معاليه ممتدة على مفارق الأيام، وظل حساده أقلص من جفون العاشق عن طيب المنام.
هذا ولو أوتى الداعي زكن إياس، واستضاء من محاضرة أبي الفرج بنبراس.
وملك براعة ابن العميد، وأحرز خطب ابن نباتة وبداهة عبد الحميد.
وأعطى بلاغة الصاحب ونوادر أبي القندين، ونال مقامات البديع ومفاوضات الخالديين.
وحاز محاورات الأحنف وفصاحة سحبان، وحوى منشآت القاضي الفاضل ومدائح حسان.
ورام أن يزخرف كلاما يناسب مقتضى المقام والحال، لفل حد القلم وضاق ذرع المجال.
وإن أحجم بقيت في النفس حاجة، وعصف على القلب ربح حسرة فهاجه.
فلذلك أقدم على الثانية سجياً، وأبدى لتلك الحضرة هديا.
فإن أكرم الأمير مثواها، فنظم من فرائد عوائده فحلاها.
وأجاب بما يروى غليل الفؤاد، ويخصب مراد المراد.
فذلك من مساعي فطرته المنجكية، ودواعي شيمته البرمكية.
فأجابه بهذه الأبيات:
أمولايَ من دون الأنام وسيِّدِي ... بمدحِك قد بلَّغْتني كلَّ سُؤْدَدِ
بعثتَ بأبياتٍ كأن عُقودَها ... مُنضَّدةٌ من لُؤْلؤٍ وزَبَرْجَدِ
أُمتِّع طَرْفي في طروسٍ كأنها ... مبادِى عِذارٍ فوق خَدٍّ مُورَّدِ
سطورٌ إذا مارمتُ قتْل حواسدِي ... أُجرِّد منها كلَّ عَضْبٍ مهنِّدِ
تكلفِّني ردَّ الجواد وإنني ... أبِيتُ بفكرٍ في الزمان مُشرَّدِ
وليس يُجيد الشعرَ منطقُ عاجزٍ ... ضئيل على فُرْش السُّهادِ مُوَسَّدِ
يمرُّ به العمرُ الطويل مُضيَّعاً ... على الكُرْهِ منه بين واشٍ وحُسَّدِ
فعذراً أخا العلْياءِ فُلَّتْ عزائمي ... وقد كنُت كالسيف الصَّقِيلِ المجرَّدِ
فإنك أهلُ الصفحِ والعفوِ والرِّضا ... وإنك من نَسْلِ النبيِّ محمدِ
أعَزُّ بني الدنيا وأشرفُ من سَمَا ... إلى الرتبِة العَلْيا بغير تردُّدِ
صغيرٌ إذا عُدَّت سِنِىُّ زمانِه ... كبيرٌ به أشياخُنا الغُرُّ تقتدِى
تملَّك رقَّ الحمدِ والشكرِ والثَّنا ... بكفٍّ على فعل الجميلِ مُعوَّدِ
فلا زال عيناً للزمان وأهلِه ... يجرِّر ذيلَ الفخرِ في كلِّ مَشْهَدِ
ومما طارحني به في بعض مطارحاته، أنه لما مر بدمشق قاصداً الحج، شغف بأحد أبناء سراتها، وكان من الأشراف، قال: ثم فارقته وتباكينا يوم التوديع، فكتبت إليه من الطريق مضمناً بيت البحترى:
يا آل بيتِ المصطَفى هل رحمةٌ ... لفؤاد مشبوبِ الجوانح نائرِ
ضلَّتْ نواظُره الرَّقادَ وما اهتدتْ ... ببَياض دمعٍ من سوادِ ضمائرِ
دمعٌ تعلَّق بالشَّؤونِ فساقَه ... زفراتُ بَرْحٍ من جوًى مُتخامِرِ
لو تنظرون إلى الشَّتيتِ وسِرْبُه ... يقْفو سُروبَ زواخرٍ وزوافرِ
لعذرْتموه وماله من عاذِلٍ ... وعذلْتموه وماله من عاذرِ