واهاً لأيامٍ تقضَّتْ خُلْسةً ... في ظلِّ دَوْحٍ بالسيادةِ ناضرِ
دوحٌ عليه من النبيِّ محمدٍ ... وَضَحُ الصباحِ ونفْح روضٍ باكرِ
لم أنْسَه يومَ الوَداعِ وطَرْفُه ... يرنُو إلى شَعثِ النجيبِ الضَّامِرِ
وفعالُه تُبدِى نفاسةَ عِرْقِهِ ... في فضْل وجهٍ بالسماحةِ زاهرِ
حتى إذا جدَّتْ بنا ذُلَلُ النَّوى ... والعينُ تسْفح بالنَّجِيع المائرِ
سِرْنَا وعاوَد كالمقيم وربما ... كان المقيمُ عَلاقة للسائرِ
ومن بدائعه قوله:
ألا لا تسَلْ أيّ شيءٍ جرَى ... ومن قَرْح جَفْنِيَ ماذا جرَى
تعلَّمتُ من حبِّه الكيِميَا ... وصرتُ حكيماً به أكْبرا
سحَقْت فؤادي وأودعتُه ... بنارِ غرامٍ به أسْعَرَا
وصيَّرتُ عيني أنبيقةً ... وقطَّرْتُه ذهباً أحمرا
ألا هكذا يا أُخَيَّ الهوى ... كما كلَّ صيدٍ بجوف الفَرَا
وقوله:
لم يدْرِ من بالوصل مازَ جَفاكِ ... أن الرَّحِيقَ العذبَ مازَج فاكِ
قد كنتُ في دِين الغرام موحِّداً ... ومُوحَّداً من دون من يَهواكِ
حتى نصبْتِ الهُدْبَ منكِ حُبالة ... للعاشقين وعُقْلةَ النُّسَّاكِ
وأريْتنِي ناراً بخدِّك أُضرمتْ ... فوقعتُ في الأشْراكِ والإشْراكِ
وقوله:
رأسُ الشريف عليه سندسُ أخضرٍ ... عنوانُ ما في الخلدِ بعضُ حُلاهُ
سُقِيتْ بماء مكارمٍ أعْراقُه ... فاخْضرَّ من أصلٍ زكا أعْلاهُ
من قول الشهاب الخفاجي:
يقول على رأس الشريفِ علامةٌ ... ونورُ نبيِّ الله عن ذاك أغْنَاهُ
فقلتُ جرى ماءُ المكارمِ والندى ... وقد طاب مَجْراه لذا اخْضَرَّ أعْلاهُ
وله في مجدر:
يقولون من تهواه جُدِّر وجُهه ... فقلتُ لهم حاشاه من نَصَبٍ يُردِي
ولكن أشارُوا بالبَنان لحسنِه ... فأثَّر أطرافُ الأناملِ في الخدِّ
قلت: لله دره على ما أبدع: وقوله: جدر بالبناء للمفعول، تقول جدر الرجل، فهو مجدر.
وفي الأساس: مجدر ومجدور.
وأنكر الحريري في الدرة مجدراً، وعده من الوهم.
قال: لأنه داء يصيب الإنسان مرة في عمره، من غير أن يتكرر عليه، فلزم أن يبنى منه المثال على مفعول، ولا وجه لبنائه على مفعل الموضوع للتكثير.
ولا وجه لإنكاره، إذ ليس كل فعل للتكرير والتكثير، فقد يجيئ بمعنى فعل كثيراً، مع أن التكثير والتكرير محقق هنا باعتبار أفراد حباته، وهو في غاية الظهور.
والأفصح أن يقال جدري، بضم الجيم، واشتقاقه من الجدر وهو آثار الكي على عنق الحمار.
وقد أكثر الشعراء من وصف المجدر، ولم أر أحسن من قول أبي سعد الجويني:
بدتْ بثَراتُه فوق المُحيَّا ... كما نُثرتْ على الشمس الثُريَّا
كأن الخدَّ والبثَرات فيه ... حَبابٌ فوق كأسٍ من حُمَيَّا
وأنشدني الحجازي، قوله في وصف مجلس لبعض أحبائه، أطل على غدير فرشت أرضه بحصبائه:
حسَدتْ جَمْعنا النجومُ فألْقتْ ... نَفْسَها في مناقِع الغُدْرانِ
هذ بيتٌ ماله الحسن موازي، يساوي ألف بيت من جنس بيت المنازي.
وما أظن أن أحداً سبقه إلى هذا المعنى، ولا أن فكراً طرق هذا المغنى، غير أن في قطعة لابن حمديس بيتا يقاربه في المبنى، وهو:
كأن حُبابا رِيع تحت حَبابِه ... فأقبل يلقى نفسَه في غَدِيرِهِ
وأنشدني من لفظه لنفسه، قوله في قصيدة، في مدح الوزير الفاضل:
ولرُبَّ يومٍ قد تلفَّعتِ الضحَى ... منه بثوبَيْ قَسْطَلٍ وغَمامِ
حسرتْ قِناعَ النَّقْع عنه عُصبةٌ ... غُبْرُ الوجوه مُضيئةُ الأحْلامِ
مُتجرِّدين إلى الِّنزالِ كأنما ... يتجرَّدون لواجبِ الإحرامِ
لا يأنَسُون بغير أطْرافِ القَنا ... كالأُسْد تألَف مَرْبِض الآجامِ