لم أقُلْ طالتْ وإطْنابُ الورَى ... في مَعاليك مدَى الدهرِ اخْتصارُ
فابْقَ أعْلَى الناسِ جاهاً ونَدىً ... وإلى مَجدِك بالعِزِّ يُشارُ
لك أهْنَى عِيشةٍ تخْتارها ... ولأَعْداك البلايَا والدَّمارُ
وقد اكتفيت بما أثبته عن الباقي، ورددت بعد هذه الخمرية القدح إلى الساقي.
عبد الباقي بن محمد الشهير بعارف بحرٌ وأنواع المعارف ماؤه، وبدر وأوج السعادة سماؤه.
لم ير نظيره في المحاسن النواضر، لأن محاسنه ملأت القلوب والنواظر.
له السبق الأشهر، ونطقه الياقوت والجوهر.
استولى على العلوم، وألحق المجهول منها بالمعلوم.
وأما الأدب وفنونه، فهو الذي تشير إليه عيونه.
فالنسب، إلى حفظه انتسب.
والأيام والدول، عنده منها خبر الأواخر والأول.
وأما الأخبار فهو ينسي التاريخ ومن ورخ، وله استقصاءٌ يعلم به الذي باض وفرخ.
وقد وفر الله له غاية الحظ في محاسن الخط، فخطه نتيجة ما أودع الباري من مقدمتي البرى والقط.
كلما دور القلم نور المقل، وحلى العقول وحل العقل.
وقد اعتنق الأشعار وألفها، كما اعتنقت لام الكتابة ألفها.
وجاء منها بفرائد تحسدها سبح الدر من الثنايا المنظمة في العقيق، وتغض من حيائها حدق النور وتحمر خدود الشقيق.
وكنت وأنا بالروم اجتمعت به مرات، وشاهدت طلعةً هي موسم أفراح ومسرات.
فلما ورد دمشق كانت رؤيتي له ثانية، وفيها تدلت على ثمرات إقباله متداينة.
وشديت للقاهرة في خدمته الرحل، وكنت معه بها في زمنٍ كزمن الفطحل.
في أوقاتٍ كلها برؤيته نعيم وطلاوة، أتلو بها أوصافه على القلم فيسجد لها سجدة تلاوة.
وأنا أعلق من نفسائه كل ذخيرة، وينسيني الليلة الأولى منه بالأخيرة.
وتسهر عيْني فيه والحَظُّ نائمٌ ... كأنِّيَ من خوفِ المَكارِه أحرسُهْ
ولقد أشتهى أن أحل كل جسم، ليكون لي من رؤية وجهه كل قسم.
وإذا رغب إلى الله راغبٌ، في تسهيل ما له من مطالب ورغائب.
فإني أرغب في التوسل بطول عمره، وارتقاء أمره.
إلى أن يعمل الاسم في الحرف، ويمتنع زيد من الصرف.
وحتى يشغل الجسم حيزين، ويحل في مكانين.
وقد أخذت من أشعاره التي جاوز الشعرى تراقيها، وكأنما نظم المحاسن عقد في تراقيها.
ما لو ضربت بيوتها بالحجاز، لأقرت لها العرب العاربة بالإعجاز.
قصائدُ إن تكنْ تُتْلَى على مَلأٍ ... صدورُها علمتْ منها قوافيهَا
ينْسى لها الراكبُ العَجْلانُ حاجتَه ... ويصبحُ الحاسدُ الغضْبانُ يرْوِيهَا
فمنها قصيدة نبوية، أولها:
متى هتفتْ بالجُنْحِ وُرْقُ الحمائمِ ... أنارتْ جوَى قلبٍ من الوجدِ هائمِ
سقَى اللهُ ساحاتِ العُذَيْبِ وبارِقٍ ... بكل هَمُولِ الوَدْقِ أوْطفَ ساجمِ
إذا بارِقٌ شِمْناه من نحو بارِقٍ ... تأجَّج نارٌ في الحشَا والحيَازِمِ
فها أنا مَطْوِيُّ الضلوعِ على الجوى ... إلى لَثْمِ هاتيك الرُّبَى والمَعالمِ
ألا أيها الحادِي ترفَّقْ بمُهْجتِي ... وباليَعْمَلات الدَّامِياتِ المَناسِمِ
أحِنُّ ادِّكاراً نحوَ مُنْعَرَج اللِّوَى ... وأصْبُو إلى سفْحِ النَّقَا فالأناعمِ
فيَسِّرْ إلهي أن أعفِّر جبهتي ... بساحاتِ هاتِيكَ الرُّبَى والمَعالمِ
ألم يَأْنِ يا مُعطِي المُنَى أن تحصَّلتْ ... مآرِبُ أصحابِ النفوسِ الأكارمِ
وهاج غرامِي نحوَ مكَّة حيثما ... تُشَّدُّ حِزامُ المُرسَلات الرَّواسمِ
وذلك أزْكى مَرْبعٍ صار مَنْشَأً ... لفخرِ البرايا خيرِ أولادِ آدمِ
ترى طَيْبةً قد صار مأوَى شفيعِنا ... حليفِ النَّدى فخرِ الجدودِ الأكارمِ
محمدٍ المبعوثِ بالبِرِّ والتقى ... وبَذْلِ نوالٍ واقْتناءِ مكارمِ
طرازِ رُواءِ الفضلِ من نَسْل يَعْرُبٍ ... وإنسانِ عين المجد من آل هاشمِ
شفيعِ ذوِي الآثامِ نِيطَتْ بحبِّه ... إزاحةُ آثامٍ وصفحُ جرائمِ