فكان الحسين ممن استبدل اليمن بالحرم الآمن، وأقام به وهو كالدرة في وسط الصدف كامن.
فتلت الألسن سور أوصافه، واجتلت الأسماع صور اتسامه بالفضل واتصافه.
وقد رأيته بمكة في يومٍ خرج به متنزها، وجوه يطلع صندلا، وممشاه يفوح مندلا.
فرأيت ملكاً في صورة ملك، وبدراً طلع من فلك.
عنوانه يدل على طرسه، ونور معاليه مبين طهارة غرسه.
وطلبت به الاجتماع مع واسط له من أخصائه مادح، فاعتذر له بما اعتذر به عز الدولة ابن صمادح.
وذلك ما حكى ابن اللبانة الشاعر، قال: ذكرته لأحدٍ ممن صحبته من الأدباء، ووصفته بما فيه من الصفات العلية، فتشوق إلى الاجتماع به، ورغب إلي في أن أستأذنه في ذلك.
فلما أعلمت عز الدولة، قال: يا أبا بكر، أتعلم أنا اليوم في خمول وضيقٍ، لا يتسع لنا معهما، ولا يجمل بنا الاجتماع مع أحدٍ، لا سيما مع ذي أدب ونباهة، يلقانا بعين الرحمة، ويزورنا بمنة الفضل في زيارتنا، ونكابد من ألفاظ توجعه، وألحاظ تفجعه. يجدد لنا هماً قد بلي، ويحيي لنا كمداً قد فني، وما لنا قدرةٌ أن نجود عليه بما يرضى به عن همتنا، فدعنا كأننا في قبر نتدرع لسهام الدهر، بدرع الصبر.
وهو كما تحققته في العلم أجل من انعقدت عليه عشرة أبناء الدهر، وأشهر من البدر في ليلة الرابع عشر من الشهر.
وله في الأدب فرائد شنف بها آذان الزمان، وأطلعها أشف من قلائد العقيان، وعقود الجمان.
وجميع ما أثبت له قد جردته من كتاب الطوق الذي جمعه يوسف بن علي الهادي من شعر بعض العصريين باليمن.
قال فيه: لما بلغه تأليفي لهذا الطوق، وتكليف نفسي بمزاحمتها لأهل هذه الصناعة فوق الطوق.
رغب الاطلاع عليه، وسأل مني ذلك فسيرت ما كان قد تحصل مني إليه.
وسألت منه نظم شيء في الحمائم، ونقل ما أمكن من نظمه ونثره اللذين لم يكتم شهادتهما ومن يكتمها فإنه آثم.
فعاد الرسول مصحوباً بقطعة منها هذا نظير، في وصول الطوق الذي لا يدخل تحت الطوق له نظير،
يُوسُفِيُّ الجمالِ كم هام صَبٌّ ... في معانِي جمالهِ اليُوسُفِي
ولما كمل له النظر فيما أرسلت إليه من هذا التأليف، أعاده إلي ومعه كراس فيها من معجز نظمه البديع الترصيف.
افتتحها بأبياتٍ، مدح بها ما أودعته في هذا التأليف من الأبيات البينات.
ولعمري: إن الإنصاف، من خلال الأشراف.
والإنكار، من خلال الأشرار.
والإنكار، من خلال الأشرار.
وقبلها من قوله، ما لفظه: هذه الأبيات في تقريظه طوق الصادح، الذي لا يدخل حصر أوصافه تحت طوق المادح:
لَعَمْرُك ما الروضُ المُوَشَّع بالزَّهْرِ ... ولا طلعةُ البدرِ الذي حُفَّ بالزُّهْرِ
ولا الحُور قَلَّدْنَ النُّحورَ قلائداً ... تُضِيءُ من الدُّرِّ المفصِّل بالشَّذْرِ
ولا ابنُ ذُكا يا ذا الذَّكاء ولا ولا ... بأبْهَج من هذا الكتابِ بلا نُكْرِ
لقد أطربتْ ألفاظُه كلَّ سامعٍ ... فيا مَن رأَى طَوْقاً له نَغْمةُ القُمْرِي
مَعانِيه أضْحتْ في المَهارِق تُجْتلَى ... كما يُجْتلي وَجهُ المَليحة في الخُمْرِ
ولا عيبَ في ألْفاظِه غير أنَّها ... غَدَتْ لأُلِي الألْباب تنفُث بالسِّحْرِ
على كُتب التّاريخ يفضُل يا فتَى ... كما فضَلتْ شمسُ النهارِ على البَدْرِ
فما يُجْتلى وجهُ الخرِيدة بعدهُ ... وذَلَّ به قَدْرُ اليتيمة في الدهرِ
ورَيْحانة المولَى وإن فاح عَرْفُها ... ففي طَيِّ ذا من رِيح يوسُفَ والنَّشْرِ
فمن علَّم الوَرْقا بأنَّ محَلَّها ... به قد غدَا يعلُو على هَامةِ النَّسْرِ
فقُل للذي جاءتْ بَنانُ بيَانِه ... بزُخْرُفِ لفظٍ قد سَبا كلَّ ذي حِجْرِ
لئن ورَدَت نهرَ البَيان عصابةٌ ... فأنت الذي قد خُضْتَ من ذاك في بَحْرِ
وإن هَبطتْ مصرَ البلاغةِ عُصبةٌ ... فيوسفُ قد أضْحَى العزِيرَ على مصرِ
قال: هذا هو النظم الذي لو رامت البدور أن تحاكيه لظهر عليها أثر التكلف، أو دعيت الأقلام إلى رقمه لسعت إليه على رأسها وما جنحت إلى التخلف.