للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فأهل بلاده على كثرة مفاخرهم، مقرون بفضله التام عن آخرهم.

وله في الأدب مرتبةٌ علية، وأشعاره بمثابة علمه واضحةٌ جلية.

فمما بلغني من شعره، وقد أنشد بعضهم بيتي ابن حزمٍ الظاهري.

وهما:

إن كنتِ كاذبةَ الذي حَدَّثْتنِي ... فعليكِ إثمُ أبي حنيفة أو زُفَرْ

الواثِبينَ على القياس تمرُّداً ... والرَّاغبين عن التسُّكِ بالأثَرْ

فأنشد:

ما كان يحسُن يا ابنَ حَزْمٍ ذَمُّ مَن ... حاز العلومَ وفاق فَضْلاً واشْتَهرْ

فأبو حنيفةَ فضلُه مُتواتِرٌ ... ونظِيرُه في الفضلِ صاحبُه زُفَرْ

إن لم تكنْ قد تُبْتَ مِن هذا ففِي ... ظَنِّي بأنك لا تُباعَد من سَقَرْ

ليس القياسُ وقد تكون أدِلَّةٌ ... للحُكْمِ من نَصِّ الكتاب أو الخبَرْ

لكنَّ مَعْ عَدَمٍ تُقَاسُ أدِلَّةٌ ... وبذاك قد وَصَّى مُعاذاً إذْ أمَرْ

ابنه الناصر حامل راية الاجتهاد وناصرها، وقاطف أغصان البدائع وهاصرها.

منظور بالمهابة والجلال، مدلٌّ بالخصال البارعة والخلال.

وله الخاطر الوقاد بتلسن لهبه، والفكر النقاد لذهب القول ومذهبه.

وكان استوزره الإمام المؤيد بالله فانتظم الأمر أيام وزارته، وتصرفت الأيام طوع إشارته.

فأحسن الله له نيل وطره، وفخر بالظهور على من انحط خطره عن خطره.

وهو صاحب رأيٍ سديد، وله في الأدب وأنواعه باعٌ مديد.

وشعره صور محاسنه مجلوة، ونثره سور بدائعه متلوة.

فمن شعره ما كتبه إلى السيد الإمام يحيى بن أحمد الشرفي، عاتباً عليه في تأخره عن الدرس؛ لشغلٍ عرض له:

أحبابَنا ما لهذا الهجرِ من سَبَبٍ ... وما الذي أوْجَبَ الإعْراضَ واعَجَبَا

يمْضِي الزمانُ ولا نحْظَى بقُرْبكمُ ... على الجِوارِ وكَوْنِ الجار ذَا قُرْبَى

وليس شيءٌ على المُشْتاقِ أصْعبَ من ... بُعْدِ اللقاءِ إذا مُشْتاقُه قَرُبَا

فصانَك اللهُ يا سِبْطَ الأكارمِ أن ... يكونَ وُدُّك للأحْبابِ مُضْطرِبَا

هذا وإنِّيَ أدْري أن قَصْدَك لِي ... وأنت معْ ذاك شَيْخي عَكْسُ ما وَجَبَا

لكنَّه لم يكنْ منِّي لحقِّكمُ ... جهلٌ ولكنَّ عُذْرِي عنك ما عَزُبَا

وطلب السيد يحيى منه أن يرسل له مؤلفه المحرر في علم القراءات، فأرسله إليه وكتب معه:

سلامُ اللهِ ما هَمر السحابُ ... ففاحَ عَبِيرُ زَهْرٍ مُستطابُ

وإكرامٌ وإنْعامٌ على مَن ... له في المجدِ مَرْتبةٌ تُهابُ

على يحيى الذي ما نال كَهْلٌ ... عُلوماً نالَها وكذا الشبابُ

وبعدُ فإنَّ أشْواقِي إليكمْ ... كثيرٌ ليس يحصُرها كتابُ

وتقْصُر ألْسُنُ الأقلامِ عن أن ... تقومَ بوَصْفِها وكذا الخطاُ

فيا ابْنَ مَدينةِ العلمِ التي لمْ ... يكُن غيرُ الوَصِيِّ لتْلك بابُ

ومَن حاز المَكارِمَ والمَعالي ... فمنه قل بَدا العجَبُ العُجابُ

إليك أتى المُحرَّر في حَياءٍ ... لتُصْلِح منه ما العلماءُ عابُوا

وتنظُرَه بعينِ البشرِّ حتى ... يزولَ إذا وجدْتَ به اضْطرابُ

فمَن قد زارَ من بلدٍ بَعِيدٍ ... حَقِيقٌ أن يُلانَ له الجَنابُ

ورَاجِعْ في عبارتِه أُصولاً ... لديْك بِحِفْظِها كُشِف الحِجابُ

وإنِّي طالبٌ بَسْطاً لعُذْرٍ ... ويشملُني دُعاؤكم المُجابُ

فما لي غيرُ شِعْبِ الآلِ شِعْبٌ ... وإن حسنُتْ بزَهْرتِها الشِّعابُ

ودُمْ واسْلَمْ مُعافىً في نعيمٍ ... مُقيمٍ والقَرابةُ والصِّحابُ

فكتب إليه السيد:

سلامٌ لا يُحيِط به حِسابُ ... ولا يُحْصِي فضائِلَه كِتابُ

ولو أنَّ البِحارَ له مِدادٌ ... ولم يبْرَح له الدهرَ اكْتِتابُ

<<  <  ج: ص:  >  >>