فإن محاسن محاسنها أثر فيها ذلك القدح، وجلالة قدرها مشيدةٌ بمدح الشريف وشريف المدح.
وأقول: كأن ابن معصوم لم يظفر من شعر الأنسي إلا بهذه القصيدة، التي أظهر فيها نقده.
على أن شعره كثير، وفضله أثير، وجياد كلامه لنقع البلاغة لم تزل تثير.
قال: قوله: فوالله ما مكر العدو.. إلخ هذا البيت ساقطٌ، ويتلوه ما بعده.
يشير بذلك إلى الأبيات الثلاثة التي بعده.
أقول: ليس في هذا البيت عيبٌ إلا تكرار لفظ المكر؛ فإن التكرار مخلٌّ بالبلاغة إن أدى إلى التنافر كما بينوه، وأما من حيث المعنى فهو مستقيم؛ لأنه لما ذكر أن الدهر معاندٌ له، أثبته عدواً، ونسب إليه المكر به، كما هو شأن العدو، وادعى أن مكره أشد من مكر العدو، على طريق المبالغة في وصفه بذلك.
وقوله: هو المكر؛ أي هو الذي يستحق أن يسمى مكراً، كأن غيره بالنسبة إليه لا يسمى مكراً.
وأما قوله: فقولا لأحداث الليالي.. إلخ، فلا يظهر وجه سقوطه؛ لا من حيث اللفظ، ولا من حيث المعنى، وهو خارج مخرج التظلم من الدهر.
نعم قوله: فتلك الرياض ظاهر السقوط.
قال: وهو ملحون القافية، إذ صوابها النصب.
قوله: وإن سحبت أذيالها خلت حية، هذا من قبيح التشبيه، على ما فيه من الخلل.
قلت: اعتراضه عليه ليس فيه خفاء.
قوله: وصحنان خد. إلخ، ملحون أيضاً، وفيه تشبيه المثنى بالجمع.
وقوله: وما كل البلاد هي المصر.
قال: أدخل لام التعريف على مصر، وهي علمٌ للبلدة المشهورة وهو غير جائز.
قوله: لها بشر مثل الحرير، هذا البيت من قصيدة ذي الرمة المشهورة، وقد انتحله من غير تنبيه على ذلك.
قلت: بعد إثبات الشهرة لا يحتاج إلى التنبيه.
وفي قوله: قد انتحله من غير تنبيه على ذلك، غفلةٌ، فإن من ينتحل شيئاً لا ينبه على انتحاله.
قال: وإنما نبهت على ذلك كله لأن بعض أهل العصر يغالي في استحسانها، زاعماً أنها من أعلى طبقات الشعر، وليس كما توهم.
قلت: يكفيها شهادته بأنها من أعلى الشعر، فهي شهادةٌ بعالٍ من علي، والحق أن حسن مساقها واضحٌ جلي.
وقوله فيها: كأن لم يكن أمر وإن كان كائن.
لهذا البيت قصةٌ، وهي: أنه كان ورد مكة رجلٌ يقال له بشير، ومعه أوامر من السلطان مراد، بأنه مطلق التصرف، وكان في ظنه أنه يعزل الشريف زيداً عن منصبه، فلما وصل إلى ينبع، ظهر خبر موت السلطان، فلم يتم له أمرٌ.
وكان الشريف زيد: رأى في المنام، كأن شخصاً ينشده هذا البيت:
كأنْ لم يكنْ أمْرٌ ... .........إلى آخره
فانتبه، وكتبه بالسواك على رمل، في صحن نحاس، خشية النسيان.
وكانت هذه الرؤيا في الليلة التي أسفر صباحها عن الخبر، فنظم الأنسي القصيدة، وأدرجه فيها.
وله هذه الكافية، في مدح الشريف المذكور أيضاً، وأولها:
مِن قبلِ رُؤْياك يا رَيَّا عَرفْناكِ ... أهْدَى النسيمُ قَبُولاً طِيبَ رَيَّاكِ
ونَفْحة جابتِ الآفاقَ منكِ فلم ... يبْقَى على المِسكِ ذِكْرَى بعدَ ذِكْراكِ
كم بَلْبَلَ البَالَ منها بُلْبُلٌ سَحَراً ... وهل مَغانيه إلا بعضُ مَغْناكِ
وأطْربَ العِيس حَادٍ في مَفازَتِها ... تحت الدُّجَى حين غَنَّاها بمَغْناكِ
حَلَلْتِ نَجْداً فطابتْ منكِ أرْبُعُهُ ... وأصْبحَ التُّرْبُ تِبْراً بعد مَمْشاكِ
وخالطَتْ مَجَّةٌ منك العُذَيْب وما ... عِلْمِي به قبلُ لولا نَفْثُ مِسْواكِ
عِمِي صباحاً مَغانِي الغانياتِ ولا ... تنْفَكُّ نعم تغذ أيدي نُعْماكِ
أين العهودُ التي كانتْ مُؤكَّدَةً ... إيَّاك أن تنْقُضِيها بعدُ إيَّاكِ
نعِمْتِ يا نُعْمُ بَالاً بعدَنا ولنا ... بالٌ يُبَلْبِلُه ذِكْرى مُحيَّاكِ
إن كُنَّ أرْبُعِك الَّلاتي زهتْ وهَزَتْ ... بأرْبعٍ من جِنانِ الخُلْدِ مَأْواكِ
فيهِنَّ عَيْنانِ من شُهْدٍ ومن لَبَنٍ ... نَضَّاخَتانِ فمِن عَيْنَيَّ عَيْناكِ
والمُنْحنَى من ضُلوعِي لم يزلْ أبداً ... مَثْواكِ والقلبُ لا ينْفكُّ مَرْعَاكِ