فعليك الصلاةُ ما هَجَّر الركْ ... بُ وحَثَّ القِلاصَ للتَّعْرِيسِ
ثم دخل حلب.
قال العرضي: فنزل منها في صدرٍ رحيب، وقابلته بتأهيلٍ وترحيب.
ثم انثالت إليه من أبناء الشهباء عيون أعيانها، من وجوه علمائها وأشرافها، الذين هم إنسان حدقة إنسانها.
انثيال الدر، إلى الواسطة من عقد النحر، واحتفت به احتفاف النجوم بالبدر.
ممن دعاه ناديه فلباه، وحظي بإقبال وجهه وطلعة محياه.
فرأيناه يحاضر بأخبار الطالبين، الحسنيين منهم والحسينيين.
سيما الشريف الرضي، من وجهٍ مذهبه في البلاغة وضي، وطريقه وهو أخو المرتضى مرضي.
ويلهج كثيراً بأخباره، ويحفظ أغلب أشعاره.
قال: فمدحته بقصيدةٍ، مطلعها:
لِلهِ أكْنافٌ بخيفِ ... طابتْ وطال بها وُقوفِي
إلى أن تخلصت إلى مديحه:
وإذا طلبتَ عَرِيفَهم ... ولأَنْت بالفَطِنِ العَرِيفِ
فهُو الشريفُ بنُ الشري ... فِ بن الشّريفِ بن الشريفِ
فتمايل لدى إنشادها طرباً، وأظهر بها إعجاباً وعجباً.
قائلاً: لا فض الله فاك، وكثر من أمثالك.
فقلت: استجاب الله دعوتك هذه، كما استجابها من جدك رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين أنشده النابغة الجعدي:
بلَغْنَا السماءَ مَجْدَنا وجُدودَنا ... وإنّا لَنرْجو فوق ذلك مَظْهَرَا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فأين المظهر يا أبا ليلى "؟ قال: الجنة يا رسول الله.
فقال: " قل إن شاء الله ".
ثم قال:
ولا خيرَ في حِلْمٍ إذا لم يكنْ له ... بَوادِرُ تَحْمِي صَفْوَه أن يُكَدَّرا
ولا خيرَ في أمرٍ إذا لم يكن له ... حليمٌ إذا ما أوْرَد الأمرَ أصْدَرَا
فقال له صلى الله عليه وسلم: " لا فض الله فاك ".
فبلغ عمره مائة سنة، لم يتغير له سنٌّ، بل كان أحسن الناس ثغراً.
ثم قصد الشريف أحمد دار السلطنة العلية، قسطنطينية المحمية، فلقي سلطان الوقت إذ ذاك السلطان مراداً بقصيدة فريدة، سأله فيها توليته مكة.
أولها:
ألا هُبِّي فقد بكَر النَّدامَى ... ومَجَّ المَرْجُ من ظَلْمِ النَّدَى مَا
فقيل: إنه أجابه إلى ملتمسه ومراده، وأرعاه من مقصده أخصب مراده.
ولكن مدت إليه يد الهلك، قبل أن ينال الملك.
وقيل: بل أجزل عطاه فقط، فقد طمعه عما تمناه وقط.
ولم يعد إلى مكة، وتوفي في تلك السنة، أو في التي تليها.
وتتمة هذه القصيدة قوله بعد المطلع:
وهيْنمتِ القَبُولُ فضاعَ نَشْرٌ ... روَى عن شِيحِ نَجْدٍ والخُزامَى
وقد وضَعت عَذارَى المُزْنِ طِفْلاً ... بِمَهْدِ الرَّوضِ تَغْدُوه النُّعامَى
فَهُبِّي وامْزُجِي خَمْراً بظَلْمٍ ... ليَحْيَى ما أماتتْ يا أُمامَا
ومُنِّي بالحياةِ على أُناسٍ ... بشمس الرَّاح صَرْعَى والظّلامَا
فكم خَفَر الفوارسُ في وَطِيسٍ ... فتىً منا وما خَفَر الذِّمامَا
وكم جُدْنا على قُلٍ بوَفْرٍ ... وأعْطَيْنا على جَدْبٍ هِجامَا
قوله: وقد وضعت عذارى البيت. المراد بالطفل هو النبت، واستعارة الأم المرضع للمزن، كما وقع في قول الباخرزي، من قصيدة:
وترَعْرَعتْ فيه لَطِيفاتُ الكَلاَ ... رَضْعانَة ضَرْعَ الغَمامِ الغَادِي
ومنه مطلع قصيدة يحيى بن هذيل التجيبي المغربي:
نام طفلُ النَّبْتِ في حِجْرِ النُّعَامَى ... لاهْتزازِ الطَّلِّ في مَهْدِ الخُزامَى
وهذا البيت مطلع قصيدة من المرقص والمطرب، بل مطلع شمس البلاغة وإن كان قائلها من المغرب.
وبعده
وسقَى الوَسْمِيُّ أغْصانَ النَّقَا ... فهَوتْ تلثمُ أفْواهَ النَّدامَى
كحَل الفَجْرُ لهم جَفْنَ الدُّجَى ... وغَدا في وَجْنةِ الصبحِ لِثامَا
تحسَبُ البدرَ مُحَيَّا ثَمِلٍ ... قد سقْته راحةُ الصُّبْحِ لِثامَا
حوله الزُّهْرُ كؤوسٌ قد غَدتْ ... مِسْكةُ الليلِ عليهنَّ خِتاما