للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أرتعه معه في روضه، وسقاه بيده من حوضه.

حتى بلغه رتبةً تتقاعس عنها رتبة التمني، واعتنى به فأوصلها إليه بغير مشقة التعني.

فقام مقامه في الإمامة والتدريس، وانتصب للفتيا على مذهب الإمام محمد بن إدريس.

وألف وصنف، وقرط الأسماع بلآليه وشنف.

وهو في الأدب ممن سبق وفات، وجمع على أحسن نسقٍ كل متفرقٍ رفات.

وله نظمٌ كانتظام الأحوال، ونثرٍ تعرف منه كيف تشتبه الجواهر بالأقوال.

فمن نثره، ما كتبه إلى القاضي تاج الدين المالكي مسائلاً: سيدنا المقتدى بآثاره، المهتدى بأنواره.

إمام محراب العلوم البديعة، وخطيب منبر البلاغة التي أضحت مذعنةً له ومطيعة.

قمر سماء المجد الأثيل، فلك شمس فخر كل ذي مقام جليل.

المميطة يد بيانه حواجز الأشكال عن وجوه المعاني، المعترف بمنطقه الفصيح القاصي من هذه الأمة والداني.

عمدة المحققين قديماً وحديثاً، ملاذ المدققين تفسيراً وتحديثاً.

الصاعد معارج العليا بكماله، المنشد في مقام الافتخار لسان حاله:

لنا نفوسٌ لِنَيْلِ المجدِ راغبةٌ ... ولو تسَلَّتْ أسَلْناها على الأسَلِ

لا ينْزِل المجدُ إلاَّ في مَنازِلنا ... كالنَّوْمِ ليس له مَأْوىً سِوى المُقَلِ

والقائل عند المُجادلة في مَقام المباهلة:

نحن الذين غَدَتْ رَحَى أحْسابِهمْ ... ولَها على قُطْبِ الفَخارِ مَدارُ

المملوك يقبل الأرض التي ينال بها القاصد ما يؤمله ويرتجيه، وينهي أنه نظم بعض الجهابذة الأعيان بيتين في التشبيه.

والسبب الداعي لهما، والمعنى المقتضى لنظمهما.

أنه أبصرت العين ظبياً يرتع في رياضه، ويمنع بسيوف لحاظه عن ورود حياضه.

يرى العاشق سيآته حسناتٍ جاد بها وأحسن، ويعترف له بالحسن كل حسنٍ في الأنام وابن أحسن.

بدا وهو الجوهر السالم من العرض، وظهر وعليه أثرٌ من آثار المرض.

فأراد المشبه تشبيهه في هذه الحالة، فشببه بغصنٍ ذابلٍ قائلاً لا محالة.

ونظم ذلك المعنى، فشدا بما قاله صادح الفصاحة وغنى.

وهو:

بَدا وعليه أثْرٌ مِن سَقامِ ... كمكْحولٍ من الآرامِ ساهِي

فخُيِّل لي كبدرٍ فوق غُصْنٍ ... ذوَى للبُعْدِ من قُرْبِ المِياهِ

فاعترض معترضٌ عالم بالإصدار والإيراد، قائلاً: إن البيت الثاني لا يؤدي المعنى المراد.

إذ القصد تشبيهه بالغصن الموصوف، وليس المراد تشبيهه بالبدر فالبدر لا يوصف إلا بالخسوف.

فطالت بين المعترض والمعترض عليه المنازعة، ولم يسلم كل واحد منهما للثاني ما جادل فيه ونازعه.

فاختارا القاضي الفاضل حكماً، ورضيا سيدنا حاكماً ومحكماً.

فليحكم بما هو شأنه وشيمته من الحق، وليتأمل ما عسى أن يكون قد خفي عن نظرهما ودق.

والأقدام مقبلة، وصلى الله على سيدنا محمدٍ ما هبت الريح المرسلة.

فأجابه بقوله: سيدنا الإمام الهمام، الذي أضحى علم الأئمة الأعلام.

الإمام المقتدى به وإنما جعل الإمام، الحبر الذي قصرت عن استيفاء فضائله الأرقام " ولو أنما في الأرض من شجرةٍ أقلام ".

وارث الجلالة عن آبائه الذين زهت بذكراهم الأخبار والسير، المقيم من نفسه العصامية على ذلك أوضح دلالةٍ يصدق فيها الخبر الخبر.

الحري بما استشهد به في شأن المملوك، السالك من الكمال طريقةً عز على غيره فيها لعزتها السلوك.

يقبل المملوك الأرض بين يديه، ويؤدي بذلك ما هو الواجب عليه.

وينهي وصول المثال العالي، الفائقة جواهر كلماته على فرائد اللآلي.

يتضمن السؤال عن بيتي ذلك الجهبذ، في الشأن الذي قضى حسنه أن تسلب الأرواح وتؤخذ.

ومنع حبه الكلام الألسن، وكان الدليل على ذلك اعتراف ابن أحسن.

فإنه ذو النظر العالي المدرك حقيقة الكنه، فإذا تنور من أذرعات أدنى ما تنوره إلى قيد شبرٍ منه.

فتأمل المملوك ما وقع من تلك المعارضة، التي أفضت إلى التحكيم والمفاوضة.

فإذا المتعارضان قد مزجا في حلو فكاهتهما شدة البأس في البحث برقة الغزل، وأخرجا الكلام لبلاغتهما على مقتضى حال من جد وهزل.

وجريا إلى غايةٍ حققا عند كل سابق أنه المسبوق، وأريا غبارهما لمن أراد اللحوق.

وكان الأحرى بالمملوك ستر عوار نفسه، وحبس عنان قلمه أن يجري في ميدان طرسه.

<<  <  ج: ص:  >  >>