لكن لما كان ترك الجواب من الأمر المحظور، لم يلتفت إلى ما يترتب على الواجب من المحذور.
فقال حيث كان الأمر على ما أسنده مولانا عن الناظم وروى، من أنه قصد التشبيه في حال بقايا أثر السقام بغصنٍ ذوي.
فعدل إلى سبكه في قالب صياغته، وسلكه في سلك بلاغته.
فلا شك أنه أتى بما لا يدل على المراد دلالةً أولوية ظاهرة، وكان كمن شبه الأغصان أمام البدر ببنت مليكٍ خلف شباكها ناظرة.
وحينئذ فإطلاق القول بأن البيت الثاني لا يدل على ما أريد، ربما تمسك الخصم في عدم ثبوت الحكم عليه بأنه إطلاقٌ في محل التقييد.
كما أن للمعترض أن يتمسك في ذلك باستيفاء الدلالة الأولوية، فيكون المحكوم به هو المتعارض في القضية.
وهذا أجدى ما رآه المملوك في فصل الخطاب، وأحرى ما تحرى فيه أنه الصواب.
مع اتهامه نفسه في مطابقة الواقع في الفهم، لعلمه بدقة نظر مولانا إذا قرطس أغراض المعاني من فهمه بسهم.
وتجويزه على نفسه العجز عن الوصول إلى مأخذ المولى ومدركه، واعترافه بأنه لا يجارى في نقد الشعر لأنه فارس معركه.
انتهى.
قوله في أثناء الجواب: كان كمن شبه الأغصان، أمام البدر، يشير به إلى قول الصلاح الصفدي:
كأنما الأغصانُ لمَّا انْثَنتْ ... أمامَ بَدْرِ التِّمِّ في غَيْهَبِهْ
بنتُ مَلِيكٍ خَلْفَ شُبَّاكِها ... تفرَّجتْ منه على موكِبهْ
وله فيه أيضاً:
كأنما الأغصانُ في رَوْضِها ... والبدرُ في أثْنائها مُسْفِرُ
بنتُ مَلِيكٍ سار في مَوْكِبٍ ... قامتْ إلى شُبَّاكِها تنْظُرُ
قال النواجي: لا يخفى ما في هذين البيتين، بل المقطوعين من ضعف التركيب، وكثرة الحشو، وقلب المعنى، وذلك أنه جعل الأغصان مبتدأ، وأخبر عنه ببنت المليك، وهو فاسد، وإن كان قصده تشبيه المجموع بالمجموع، إلا أن الإعراب لا يساعده.
على أنه لم يخترع هذا المعنى، بل سبقه إليه القاضي محيي الدين ابن قرناص، فقال:
وحديقةٍ غَنَّاءَ ينْتظِم النَّدَى ... بفُروعِها كالدُّرِّ في الأسْلاكِ
والبدرُ مِن خَلَلِ الغصونِ كأنه ... وجهُ المليحةِ طَلَّ من شُبَّاكِ
فانظر إلى حشمة هذا التركيب وانسجامه، وعدم التكلف والحشو، واستيفاء المعنى في البيت الثاني فحسب، والصفدي لم يستوف المعنى إلا في بيتين، مع ما فيهما.
فلو قال في المقطوع الأول:
كأن بدرَ التِّمِّ لمّا بدَا ... من خَلَلِ الأغصانِ في غَيْهَبِهْ
بنتُ مَلِيكٍ خَلْفَ شُبَّاكِها ... تفرَّجتْ منه على موكِبهْ
وفي المقطوع الثاني:
كأن بدرَ التِّمِّ في روضةٍ ... من خلَلِ الأغصانِ إذْ يُسْفِرُ
بنتُ مَلِيكٍ سار في موكبٍ ... قامتْ إلى شُبَّاكِها تنْظُرُ
لتم له من غير تكلف.
ومن شعر علي المذكور:
هَذِي رياضُ الحُسْنِ أغْصانُها ... غَرَّد بالدّوْحةِ منه الهَزارْ
يهْتزُّ فيها قَدُّ ذاتِ الرَّنَا ... رقيقة الخَصْر على الاخْتصارْ
بِتُّ ونارُ الشوقِ قد أُضْرِمتْ ... بمُهجةٍ أحْرَقها الاسْتِعارْ
رام عَذُولِي هَدَّ رُكْنِ الهوى ... يا كعبةَ الحُسنِ بكِ المُسْتَجارْ
غَضّيْتُ ذاك الطّرْفَ عن ناظِرٍ ... هَيَّجه الوجدُ عَفِيف الإزَارْ
وقول في فتاة اسمها غربية:
ولي جِهَةٌ غَرْبيَّةٌ أشْرقتْ بها ... لِعَيْنِي شَمسُ الأُفْقِ من غيرِ لا حُجْبِ
ولاح بها بدرُ التّمامِ لِناظرِي ... ومن عجبٍ شمسٌ وبَدْرٌ من الغَرْبِ
وقوله فيها أيضاً:
هَيْفاءُ كالشمسِ ولكنّها ... غَرْبيَّةٌ يا قومِ عند الشُّروقْ
يفْتَرُّ منها الثّغْرُ عن لُؤْلُؤٍ ... رَطْبٍ ويبدُو منه لَمْعُ البُروقْ
باللهِ يا عاذلُ عنِّي فذَا ... باردُه السَّلْسلُ فيه يَرُوقْ
رِفْقاً فما في العَذْلِ لي طاقةٌ ... يُمْكِن منها لِعَذُولِي الطُّروقْ
غِبْتُ عن العاذِلِ فيها فما ... هَزْلٌ وجِدٌّ لِذَواتِ الفُروقْ
وقوله فيها أيضاً: