للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولما دخل اليمن في دولة الروم، قام له حاكمها بكل ما يروم.

فحلاه بحلية القضا، وأرهف حسام أمله بذلك المضا.

ولم يزل مجتلياً وجوه أمانيه مشرقة، مجتنياً من رياضها أغصان حظوةٍ مورقة.

إلى أن فجعه الدهر بمخدومه، وعاجله أمر القضاء والقدر بمحتومه.

هناك انقلب إلى وطنه، شاكياً ما حل به من ضيق عطنه.

ولقي بعد ذلك أحوالاً ركب صعبها وركوبها، وأهوالاً امترى أخلاف شآبيبها منهلها وسكوبها.

كما أفصح عن ذلك في رسالة كتبها لبعض كبراء الحجاز، يقول فيها: ولما قفلت عائداً من اليمن، بعد وفاة سنان باشا وانقضاء ذلك الزمن.

اخترت الإقامة في الوطن، بعد التشرف بمجلس القضاء في ذلك العطن إلا أنه لم يحل لي التخلي عن تذكر ما كان في تذكرة الخيال مرسوماً، وتفكر ما كان في لوح المفكرة موسوماً.

فاخترت أن أكون مدرساً في البلد الحرام، وممارساً لما آذن غب الحصول بالانصرام.

ولم يكن في البلد الأمين كفاية، ولا ما يقوم به الإتمام والوفاية.

انتهى.

وما زال مقيماً في وطنه وبلده، متدرعاً جلباب صبره وجلده.

حتى انصرمت من العيش مدته، وتمت من الحياة عدته.

وها أنا مثبتٌ من بديع إنشائه، ما يدعو لطرب اللبيب وانتشائه.

وأتبعه من عالي نظامه، ما يغني عن مجلس الأنس وانتظامه.

فصل من كتاب لبعض أصحابه: ينهى الملوك أنه لا يزال ذاكراً لتلك الأيام الماضية، شاكراً لهاتيك الأعوام التي حلت بفضل مولانا ولا أقوم مرت بمسراتٍ لا تزال النفس لدينها متقاضية.

كم أردْنا هذا الزمانَ بذَمٍ ... فشُغِلْنا بمدحِ ذاك الزمان

أقفر الصفا من إخوان الصفا، وخلا الحطيم من رضيع الأدب والفطيم.

وأقوت المشاعر، من أرباب الإدراك والمشاعر.

كأن لم يكن بين الحَجُونِ إلى الصَّفا ... أنيسٌ ولم يسْمُر بمكّة سامِرُ

وكان علم مولانا محيطاً بحالي، إذ كنت آنس بأولئك الجلة وأرباب المعالي.

فلم يبق من يدانيهم، فضلاً عمن يساويهم، ولا من يباريهم، فكيف بمن يماريهم.

ولقد ذكرت هنا قول بعضهم:

دجَا الليلُ حتى ما يبين طريقُ ... وخوَّف حتى ما يقَرّ فَرِيقُ

وجَّردت يا بَرْقَ المنون مَناصِلاً ... لها في قلوبِ المُبْصرين بَرِيقُ

وزَعْزعْتَ يا رِيحَ الرَّدَى كلَّ شاهِقٍ ... عليه لأنفاسِ النفوسِ شَهِيقُ

سلامٌ على الأيام إنّ صَنِيعَها ... أساءَ فهل لي بالنّجاةِ لُحوقُ

فصل، من كتاب إلى كاتب الحضرتين الشريفتين؛ الحسنية والطالبية عفيف الدين يعزيه بموت الشريف أبي طالب، في سنة اثنتي عشرة بعد الألف: كتبت إليك، كتب الله لك سعداً لا يزال يتجدد، ومجداً لا ينقطع بانقضاء ملك إلا واتصل بملك ملكيٍ مؤيد.

وإنما كتبت بدم الفؤاد، وأمددت اليراع سويدائي وشفعها اللحظ بما في إنسانه من السواد.

والكون، علم الله، كأنما هو بحرٌ من مداد، والقلوب، ولا أقول الأجساد مسربلة بلباس الحداد.

لا يسمع إلا الأنين، ولا يصغي إلا لمن تفضح بنعيها ذوات الحنين.

أضحى النقع من مثار النقع كليلةٍ من جمادى، وربات الخدود يلطمن الخدود مثنى وفرادى.

وذو الحجى يغوص في لجة الفكر فيسمع له زفير، وليث العرين كاد من صدمة هذا المصاب أن يتفطر من الزئير.

وشارف الحطيم أن يتحطم، وأبو قبيس أن يتقطم، وبيت الله لولا التقى لقلت ود أن يتهدم.

وأخال أن الحجر أسف حيث لم يكن تابوتاً لذلك الجثمان وتندم.

أي داهيةٍ دهياء أصابت قطان ذلك الحرم، وأي بليةٍ نزلت بلازمي أذيال ذلك الملتزم.

" إنا لله وإنا إليه راجعون " كلمةٌ تقال عند المصائب ولم نجد المصيبة مثلاً، ولم تشاركنا فيها حزينةٌ ولا ثكلى.

بأي لسانٍ نناجي وقد أخرسنا هذا النازل، بأي قلبٍ نحاجي وقد بلغنا هذا الجد الهازل.

بينا نحن في سرور وفرح، إذ نحن في همومٍ وترح.

أشكو إلى مخدومي ضحوة يومٍ شمسه كاسفة، " أزفت الآزفة، ليس لها من دون الله كاشفة ".

أقبل نعش لابس أثواب المرحمة بعد الخلافة، المتلقى روحه الملائكة مع الحور على الأرائك تتحفه بالسلافة.

والأيدي ممتدةٌ إليه تشير بالعويل، والحجاج وأرباب الفجاج يضجون بالنحيب الطويل.

وكادت آماقنا والله أن تسيل، وأضحت جلاميد القلوب كضحاضح المسيل.

<<  <  ج: ص:  >  >>