للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فلم نجد أحداً من الرعايا إلا وهو محرور، وذو قرابته في الحي مسرور.

إنا لله من هذه الطامة، التي أدهشت العامة، وأذهبت الشامة.

ليت شعري أبعده السلاهب تركب، أم الجنائب تجنب، أم المقربات تقرب، أم المنابر يتلى عليها غير اسمه ويخطب

وَاحَرَّ قَلْباه ممَّن قلبُه شَبِمُ

مضَى مَن أقام الناس في ظِلِّ عَدْلِه ... وآمن من خَطْبٍ تدُبُّ عَقارِبُهْ

فكم من حِمىً صَعْبٍ أباحتْ سُيوفُه ... ومن مُسْتباحٍ قد حَمَتْه كتائبُهْ

أرى اليومَ دَسْتَ المُلْكِ أصبَح خالياً ... أما فيكمُ مِن مُخْبرٍ أين صاحبُهْ

فمَن سائِلي عن سائل الدمعِ لِمْ جَرَى ... لعل فؤادِي بالوَجيبِ يُجاوِبُهْ

فكم من نُدوبٍ في قلوبٍ نَضِيجةٍ ... بنارِ كرُوبٍ أجَّجَتْهَا نَوادِبُهْ

سقتْ قَبْرَه الغُرُّ الغَوادِي وجادَهُ ... من الغَيْثِ سَارِيه المِلثُّ وسَارِبُهْ

فما كان إلا كلمحة طرف، أو حلول حتف.

وقد وضع على الباب الشريف، وسمع من أجنحة الملائكة حفيف، وتليت ولكنت أود أن أكون المصلى ولا أقول التالي في جميع ذلك الترصيف.

فما ترك الرئيس لقباً من الألقاب إلا وحلاه بدره، وعله بدره.

حتى كاد النهار أن ينتصف، والمقل تسح بالدموع وتكف.

ومن عدم إنصاف الدهر الخؤون، أن لم يطف به سبعاً وهو لمليك هذا البيت مسنون.

ثم ازدحم على رفع جنازته قاضي الشرع والسادة، فذادوه عنها ورفعوه على أعناق السلاطين والقادة.

وقلت في ذلك المقام، وعيناني تهمل ولا همول الغمام.

يعز علي أن أراك على غير صهوة، وأن تنادي يا مرغم الأنوف ولا تجيب دعوة.

وأن تحف بك الصفوة، ولا تدع لكرك فيها فجوة.

فطالما ضرعت لك السلاطين، وخضعت لك الأساطين، وأرعدت الفرائص، وأوهنت القلائص.

وحميت الحمى ولم يردعه جساس، واقتنصت حتى لم تدع شادناً في كناس، أو ليثاً في افتراس.

فلله جدثٌ ضمك وقد ضاقت الأرض عن علاك، ولله لحدٌ علاك وقد اتخذت أنعلك من السماك.

وكيف بك تحل في الثرى فبالأثير ملعب جردك، والسدرة مضمار أسلافك، والنبوة لحمة بردك.

فلك بجدك في ارتقائك إلى العالم العلوي أسوة، ولنا بفقدك الجزع الذي لا يعقبه سلوة.

فأنت لقيت الحبيب، ولقينا بعدك ما يلقى الكئيب.

فلك البشرى بلقياك ربك، ولنا بك اللقيا على الكوثر وأنت فرحٌ بشرابك وشربك.

ثم يا عفيف لا تسل عن نعشٍ حفه الوقار، وتقدمه الروح الأمين والملائكة الأبرار.

فوائح المسك الأذفر تنفح من كل جانب، كأنما ينفض من غدائر خرعوبٍ كاعب.

وبالله أقسم أن طيبه نفحني وأنا في الخلوة، وهم في تجهيز تلك الذات على هاتيك العلوة.

وحاصل ما أقص عليك من القصص، أنا أودعنا في كنف الرحمن ذلك القفص.

وعدنا ونحن كما يقال: شاهت الوجوه، حيارى لا نعلم من تؤمله وترجوه.

وقد أظلم قتام العثير، ودجا النقع حتى خيل لم يكن قط صبحٌ أسفر.

وحين هجوم هذا الخبر المهيل، كادت البلدة تدثر لولا تسهيل بعض ما صعب في التسهيل.

والنداء من الحاكم بالعافية، والأعين قد امتلأت من الهاربين بالسافية.

وغلقت الأبواب، وانقطعت الأسباب.

حتى والله كأن القيامة قد قامت، وحقت كلمة " يوم يفر المرء " والأنفس قد حامت.

وحال بيني وبين الخلوة طريقٌ طالما صاحب الربا، وسبيلٌ وبيل صرت أقطعه وثبا.

فكل من لاقيته لا يجيب، ومن كان من ورائي فكأنما هو طريدٌ أو سليب.

وبعد الدفن كثر القال والقيل، ونودي كما بلغكم وصليل السيوف منعنا المقيل.

وزف المنادي عصبةً مشهورة القواضب، معنوقة الشوازب.

والأسواق من السكان خالية، فكأنما هي خود أضحت عاطلةً بعد أن كانت حالية.

ودور مكة كأنها وبالله أقسم دور البرامكة، وكأنها لم يتغزل فيها برهة كدار عاتكة.

ولقد تذكرت فيها قينة الأمين، وقولها كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيسٌ غير الأنين.

هذا وقد أطلت عليك ما ينبغي أن يقتصر فيه مع علو مكانك، ومشيد مبانيك في البلاغة وأركانك.

والله تعالى يلهمك صبراً جميلاً على هذا المصاب، ويوليك أجراً جزيلاً على فقد ذلك المليك المهاب.

<<  <  ج: ص:  >  >>