للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يُريك جَنِيَّ الوردِ من وَجَناتِه ... ويبسَم عن زَهْرِ الأقَأحِ له الثَّغْرُ

تعلَّقْتُه بادِي النِّفارِ كأنه ... غزالٌ قد اسْتوْلَى على قلبِه الذُّعْرُ

فما زلتُ أسْقِي قاسياً من طباعِه ... مُدامةَ لُطْفٍ مَزْجُ أكْؤُسِها التِّبْرُ

فرَقَّ وقد رقَّتْ مَعانِي تغزُّلِي ... فلما رَنَا لم أدْرِ أيُّهما الشِّعْرُ

عشِيَّةَ وافانِي على غيرِ مَوْعِدٍ ... وجُنْحُ الدُّجَى من دونِ حُرَّاسِه سِتْرُ

فقبَّلْتُ منه راحَ كَفٍ أُجِلُّها ... عن الرَّاحِ حاشَ أن يُلِمَّ بها وِزْرُ

وصارتْ يَميِني كالنِّطاقِ لخَصْرِه ... على رَغْمِ مَن قد قال بان له خَصْرُ

وقال وقد رُمْتُ ارْتِشافَ رُضابِه ... متى بِحياتي قد أُحِلَّتْ لك الخَمْرُ

فَلوْلاه ما كان الغرامُ بمُهْجتِي ... مُقيماً وقد سارتْ بأخْبارِه السَّفْرُ

سَلُوا الليلَ عني كم سهِرْتُ ظَلامَه ... أُكابِدُ شوقاً دون حُرْقتهِ الجَمْرُ

أرى نَجْمَه أدْنَى من الوصلِ مَأْخَذاً ... وأبْعَدَ من سَلْوايَ إن يمْحُه الفَجْرُ

فما زلتُ أُزْجِيها مَطايا تصبُّرٍ ... بأرضِ الجَنَى حتى اسْتبان لِيَ البِشْرُ

وقال لِيَ الوصلُ الذي أنا طالبٌ ... له مَرْحباً في الأمْنِ قد رحَل الهَجْرُ

وأنشدني من لفظه لنفسه:

إذا غاب كان المَيْلُ منِّي لغيرِه ... وإن لاح كان المَيْلُ منِّي له حَتْمَا

كأنِّي هل في النحوِ والفعلَ حُسْنُه ... وكلَّ الورى إن لاح محبوبِيَ الأسْمَا

يريد به ما ذكره النحويون، من أن هل مختصة بالفعل إذا كان في حيزها، فلا يجوز هل زيد خرج؛ لأن أصلها أن تكون بمعنى قد، كقوله تعالى: " هل أتى على الإنسان حينٌ من الدهر "، وقد مختصة بالفعل، فكذا هل، لكنها لما كانت بمعنى همزة الاستفهام، انحطت رتبتها عن قد في اختصاصها بالفعل، فاختصت به فيما إذا كان في حيزها؛ لأنها إذا رأته في حيزها تذكرت عهوداً بالحمى، وحنت إلى الإلف المألوف، ولم ترض بافتراق الاسم بينهما، وإذا لم تره في حيزها، تسلت عنه، وذهلت، ومع وجوده إن لم يشتغل بضميرٍ لم تقنع به مقدراً بعدها، وإلا قنعت به، فلا يجوز في الاختيار هل زيداً رأيت بخلاف هل زيداً رأيته.

انتهى.

القاضي محمد بن خليل الأحسائي أديبٌ لا يجارى في ميدان إحسان، ولا يبارى في صنعة يدٍ ولسان.

وهو في علم العروض خليفة الخليل، وتحريره فيه الكافي عن شفاء العليل.

وكان ولي قضاء الطائف فاكتست به جمالاً، وبلغت في أهلها مآرب وآمالاً.

فكثر فيه المطري والمادح، وتفنن في وصفه الشادي والصادح.

وقد وقفت له على شعرٍ بهر اتقاده، وصح على زيف الأنام انتقاده.

فأثبت منه ما يقتطف زهراً جنياً، ويتخذ لتعليل النفس نجيا.

فمنه قوله، مخاطباً للقاضي تاج الدين المالكي، وقد طلب شيئاً من شعره:

لدَيْك أخا العَلْيَاء والفضلِ والعلمِ ... ومَن جَلَّ من بين الأجِلاَّء بالفَهْمِ

تُحَلَّ رحالُ الظَّاعنِين ومَن غَدا ... إليك بَدا في حامِلي العلمِ كالنَّجْمِ

لئن كان ربُّ الفضلِ كالرأسِ في الوَرى ... فأنتَ له تاجٌ يُضِيءُ بلا كَتْمِ

طلبتَ من النظمِ البديعِ لآلئاً ... فدُونكَها كالعِقْدِ في الحُسْنِ والنَّظْمِ

تُشنِّفُ أسْماعَ الرُّواةِ بدُرِّها ... وتقطع أفْلاذَ الغَبِيِّ من الغَمِّ

فيا أيُّها القاضي المُولِّد طَبْعُه ... من العلمِ أفْناناً تجِلُّ عن العُقْمِ

نوائبُ هذا الدهرِ غالَتْ قَرِيحَتِي ... ودقَّتْ عظامِي بعد تمْزيقها لَحْمِي

فلو أن هذا الدهرَ يُبْدِي تَعطُّفاً ... لظَلَّ بديعُ النظمِ وَالنظمُ في سَهْمِ

ولو أن جُزْءاً من هُمومي مُفَرَّقٌ ... على الخَلْقِ عامُوا في بحارٍ من الهَمِّ

<<  <  ج: ص:  >  >>