صَيَّرني الدهرُ إلى حالةٍ ... يَرْثِي لها الشَّامِتُ مِمَّا يَرَى
بُدِّلْتُ من بعد الرَّخَا شِدَّةً ... وبعد خُبْزِ البيتِ خُبْزَ الشِّرَا
وبعد سُكْنَى منزلٍ مُبْهجٍ ... سكنْتُ بيْتاً من بيوتِ الكِرَا
ولو تحقَّقتُ الذي نالَنِي ... لارْتفَع الشَّكُّ وزَال المِرَا
أحمد بن عبد الله بن أبي اللطف البري البر الوصول، الزاكي الفروع والأصول.
إذا قام على أريكة منبر، شهد ببلاغته العالم من فاجر ومن بر.
فلو رآه سحبان لا ستحيى من أن يقول أما بعد، أو سمع ابن نباتة خطبه قال: هذا سعدٌ لم ينله بنو سعد.
مع خطٍ يحسن ويروق، ولفظٍ تومض في حبره للمعنى الأصيل بروق.
وهو عالي الإسناد ولا نظير له في العوالي، وأدبه مما تحلت به العصر القريبة وخلت عن مثله العصر الخوالي.
وقد أوردت من شعره ما يتأرج في الآفاق شذىً طيبه، وتجتلى في ذروة الثناء بلاغة خطيبه.
فمنه قوله من قصيدة أولها:
قامتْ تُرِيكَ البدر إذ تخْطُرُ ... عَذْراءُ مَن هام بها يُعْذَرُ
بديعةُ الأوصافِ عُذْرِيَّةٌ ... يَغار منها الظَّبْيُ والجُؤْذُرُ
أَخالُ ذاك الخال في خَدِّها ... فَتِيتَ مِسْكٍ شَابهُ عَنْبَرُ
إذا تبدَّتْ وَدَّ بدرُ الدُّجَى ... لو كان بالسُّحْبِ إذاً يُسْتَرُ
عادت بها أعْيادُ عَصْرِ الصِّبا ... عَصْراً به تَفْتخرُ الأعْصُرُ
أيَّامَ كان الأُنْسُ في قَبْضتِي ... يُصْغِي لما أنْهَى وما آمُرُ
وكنتُ في اللَّذَّاتِ مُسْتَرْسِلاً ... والعَيْشُ غَضٌّ غُصْنُه أخْضَرُ
أجُرُّ ذَيْلَ اللَّهْوِ لا أرْعَوِي ... ظَنّاً بأن الغُصْنَ لا يُهْصَرُ
فلم أُفِقْ مذ كنتُ في عشْقتِي ... إنِّي على العُرْف بها المُنْكَرُ
حتى أناخَ الشَّيْبُ في لِمَّتِي ... والشيبُ ضيفُ صار يُسْتَنْكَرُ
فقلتُ للنفسِ أَلا فارْعَوِي ... فقد أنَاخَ الصَّارِخُ المُنْذِرُ
وكان القاضي تاج الدين المالكي، توجه إلى المدينة، في سنة أربع وخمسين وألف، فمدح أهلها بهذه الأبيات:
يا ساكِني طَيْبةَ فَخْراً فقدْ ... طابتْ فروعٌ منكمُ والأصولْ
وآيةُ الأنْصارِ فيكم سَرَتْ ... كأنما المقصودُ منها الشُّمُولْ
تُصْفُونَ مَحْضَ الوُدِّ مَن جاءكم ... فما عسى مادحُكم أن يقولْ
ولْيَهْنِكُمْ ما قد خُصِصْتُم به ... فيا لَها خصيصة لا تزُولْ
جاوَرْتُمُ المختارَ خيرَ الورَى ... وفُزْتُمُ في سُوحِه بالحُلولْ
فأجابه البري بقوله:
أعْظِم بأهل الركْنِ مِن سادةٍ ... في مَوْقِع العَلْياءِ جَرُّوا الذُّيولْ
جِيرانِ بيتِ اللهِ مَن قَدْرُهمْ ... تَحارُ في دَرْك مَداه العُقولْ
بمكَّة حَلُّوا فحَلَّوا بها ... جِيدَ المَعالِي حِلْيَةً لا تزُولْ
مَن مثْلُهم والفضلُ حقّاً لهم ... ومنهمُ التاجُ إمامُ النُّقول
رئيسُ هذا العصرِ مِن جِلَّةٍ ... سَمادِعٍ غُرٍ كِرامٍ فحُولْ
أخْلاقُه كالرَّوْضِ مِن لُطْفِها ... ولُطْفُها تخجلُ منه الشَّمُولْ
أكْرِمْ به إذْ قال مِن أجْلِنا ... طابتْ فروعٌ منكمُ والأُصولْ
وآيةُ الأنْصارِ فيكم سَرَتْ ... لكنَّني بالإذْنِ منكم أقولْ
يا نُخْبةَ الأنْصارِ منكُم لنا ... حتى شهِدْتُم وَصْفكُم لا يحُولْ
وأنتمُ جِيرانُ ذاك الحِمَى ... والآن أنْتُمْ في جِوارِ الرَّسولْ
جمعتُمُ فضلاً إلى فَضْلِكمْ ... فَسُدْتُمُ الناسَ وحَقّ المَقولْ
فاللهُ ربُ العرشِ سبحانه ... يُولِيكمُ الحُسْنَى وحُسْنَ القَبُولْ