للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حتى تُوافُوا القَصْدَ في نِعْمةٍ ... تَتْرَى وعمرٍ في سُرورٍ يَطُولْ

ودولةُ الأفْضالِ تَسْمُو بكمْ ... وتَزْدِهِي طَوْراً وطَوْراً تصُولْ

ما غَرَّدت وَرقاءُ في روضةٍ ... غَنَّا وغنَّت حين طاب الدُّخولْ

ومن لطيف ما وقع له مع القاضي تاج الدين المذكور، أنه رأى في المنام في العام المذكور، الذي زار فيه تاج الدين، كأنه في مجلس درسه بالروضة الشريفة، وإذا بالتاج داخل من باب السلام، وهو قاصدٌ الحضرة النبوية، فلما قضى الوطر من التحية والزيارة، جاء إلى المجلس وقعد، فأنشد البري بيتين بديهاً، وهما:

أمَوْلايَ تاجَ الدِّين لا زِلْتَ ذا عُلاً ... على الْهامِ والأوْهامُ ليست لِذٍي فِطَنْ

إذا كُنتُمُ في مجلسٍ كان أهلُه ... بأجْمَعِهم خُرْساً وأنت لك اللَّسَنْ

ثم انتبه وقد حفظهما، ثم لم تكن إلا نحو عشرة أيام من هذه الرؤيا، حتى وصل التاج، وكان دخوله المسجد الشريف من باب السلام، والبري في مجلس درسه، على الصفة التي كانت في الرؤيا.

ثم لم يلبث أن جاء إلى المجلس، فتلقاه، وجلس في الموضع الذي جلس فيه، وأشار باستمرار القراءة، فأنشده البري البيتين، ثم أخبره بالرؤيا، فقضى العجب، واستبشر، ثم بعد قيامه من المجلس أنشده معتذرا ومتشكرا:

لئن كان قَدْرِي مِثْلَما قلتَ عندما ... تَواضَعْتَ إذ أطْبَقْت كُتْبَكَ في الْوَسَنْ

فقد صحَّ بالأحْرَى اتِّصافُك بالذي ... وَصَفْتَ به المملوكَ من ظَنِّكَ الْحَسَنْ

لأني وإن أحْرَزْتُ ذلك إنني ... لَدَيْك أخو صَمْتٍ وأنت لَكَ اللَّسَنْ

إبراهيم بن عبد الرحمن الخياري هو للفضل خليل، ومقامه كمقام أبيه جليل.

فهما من خيار الخيار، وبهما باهت مدينة النبي المختار.

وكان أبوه سقى الله عهده، ووطأ في الفردوس مهده، علم علمٍ وفضل، وموطن رأيٍ أسد وقولٍ فصل.

فلم يختر دار القرار، حتى وافاه توفية الصلحاء الأبرار.

فطلع في جبهة الدهر غرة، يملأ عين بني الفضل قرة.

وقعد مقعده بين كتاب الله يتلى، وحديث رسوله يروى.

تؤثره الرتب على غيره، وتتباهى المعالي بحسن سيره.

ونظراءه بنباهته تعترف، وكأنه بحرٌ منه الألباب تغترف.

ثم عند لأمرٍ دعاه إلى الرحلة، فشد إلى جهة الروم رحله.

ولا مطمح إلا منةٌ من الله تصوب، وعنايةٌ يسترد بها حق مغصوب.

فورد دمشق، وأقام بها قليلا، ثم دخل الروم فنال بها حظاً جليلا.

وأدرك أمانيه على العجل، وبرىء الدهر عنده مما كان فيه من الوجل.

ثم قدم دمشق فهوت إليه القلوب مقبسةً من سناه، وتنافست الألسنة في إحراز مدحه وثناه.

وكنت ممن أسرع إليه، وأوقفت أملي في الاستفادة عليه.

فلزمته لزوم الظل للشبح، وأخذت عنه طرفاً من الطرف والسبح.

سمعت القول الذاهب مذهب الطيف الوارد، وذقت الأرى الذائب خلال الجامد، من برد المفتر البارد.

ثم رحل على مصر إلى دياره، وألقى بها بعد هنيئةٍ عصا تسياره.

في حظٍ قد اكتمل، واطلاعٍ على أخاير الذخائر اشتمل.

لكنه لم يستدرك ما فاته، حتى قدر الله تعالى وفاته.

فلا برحت سحب الرحمة تحيي قبره وتجوده، حتى تتروى من ثراه تهائمه ونجوده.

وقد أثبت من شعره بدائع تقتنى، وروائع بها على حسن الأسلوب يعتنى.

فمن ذلك قوله من قصيدة، أولها:

زارتْ على غَفْلةٍ من غيرِ مِيعادِ ... جَيْداءُ تسحبُ تِيهاً خيرَ أبْرَادِ

كالشمسِ إن وضَحتْ والبدرِ إن لَمَحَتْ ... والوَرْدِ إن سمَحتْ في خَدِّها نَادِي

حَوْراءُ ما حلَّلتْ لي نَظْرةً حَرُمَتْ ... لكنْ أذابتْ بَحرِّ الهَجْرِ أكْبادِي

يا وَيْحَ قلبي بها كم ذاق مِن حُرَقٍ ... حتى لقد شَيَّبَتْ بالْبُعْدِ أفْوادِي

أبْكِي وأكتُم دمعي كاتماً لأَسىً ... نِيرانُه في الْحَشَا آلَتْ لإِيقَادِ

يا صاحِبَيَّ إذا ما رُمْتُما سَكَنِي ... عُوجَا قليلاً كذا عن أيْمَنِ الوَادِي

أو رُمْتُما شَرْحَ حالِي في الهَوى فلقد ... غُذِيتُ دَرَّ الهوى من قبْل مِيلادِي

<<  <  ج: ص:  >  >>