للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فهو معدن الفضل الذي خلص عياره، وبحر العلم الذي لا يقتحم بسفن الأفكار تياره.

خلق كما أرادته معاليه، وتمنته أيامه ولياليه.

فلو صور نفسه في الوجود، لم يزْدها على ما فيه من الكرم والجود.

فاشتهر شهرة الفجر الصادق في الظلام، وجده أبي بكر الصديق في أهل الإسلام.

وهو خليفة الذي أسرع الأجواد لمحالفته ولم يستقم أمر خلافته مع مخالفته.

فما انقطعت الأقلام في خدمة باريها إلا طمعاً في جنات مدحه فواظبت على الخمس، ولا رأى الهلال ما في نفسه من العوج إلا قال اعتذاراً له من أين لي وصولٌ إلى مطلع الشمس.

على أن رأس الشمس شاب لانتظاره، والأنجم كلها مقلٌ منتظرةً لمحةً من أنظاره.

وكان له نوادٍ غاصة، ومجالس عامة وخاصة.

يستخلص فيها من رقت طباعه، وامتد فيما يليق بمكالمته باعه.

فيصفي ألبابهم بمحصول خيره، ويسكن قلوبهم بيمن طيره، ويغنيهم ما عاشوا عن مخالطة غيره.

في حضرةٍ تستنطق محاسنها الخرس، ونازلها متهيءٌ من موسمٍ إلى عرس.

يتنسم في الطلوع والعبو عن عبير، ويثني المعاطف من الحبور في حبير.

الرَّوضُ ما قد قِيلَ في أيَّامِه ... لا أنَّه وَرْدٌ ولا نَسْرِينُ

والمِسْكُ ما لَثَم الثَّرَى مِن ذِكْرِهِ ... لا أنَّ كلَّ قَرارةٍ دَارِينُ

فامتلأت أرجاء الوجود بأرج صفاته الملكية، وخضعت الصناديد الصيد لعتبة عزه الملكية.

وشدت فحول الرجال، نحو سدته الرحال، وكحلت بثراه أعينها بلا منة الكحل والكحال.

وأصبح للآمال ركناً ركيناً، وكهفاً تأوي إليه العفاة مسكينا.

في خِلْعةِ الزَّاهِي لِمَن شامَهُ ... صَحِيفَةٌ عُنْوانُها البِشْرُ

بطَلْعةٍ تمتْلِي العَيْنُ مِن ... إجْلالِها والقلبُ والصدرُ

وكان في الأدب ممن سلم له المقاد، وله شعرٌ سلم من النقد فإن قائله أنقد النقاد.

إذا ما قال شِعْراً تَاهَ عُجْباً ... به بين الخَلِيقةِ كلُّ شِعْرِ

ولِلأْقلامِ كم قَصَباتِ سَبْقٍ ... حَواها في الرِّهان بيَوْمِ فَخْرِ

فلم تُدْرِكْ غُباراً منه عَيْنٌ ... ولم تَلْحَقْ به خَطَواتُ فِكْرِ

فمن شعره قوله، من قصيدة أرسلها إلى شيخ الإسلام يحيى المنقاري، أولها:

أمِسْكيَّةُ الأنْفاسِ أم عَبْقَةُ النَّدِّ ... وناسِمةُ الأزْهارِ أم نَفْحَةُ الوَرْدِ

ونَشْوانةُ الألْحاظِ أم رِئْم حاجِرٍوثَغْرُ الْقَوافِي الزُّهْرِ أم لُؤْلُؤُ العِقْدِ

ومائِسَةُ الأعْطافِ أم خُوطُ بَانَةٍ ... ووَجْهُ الذي أهْواهُ أم قَمَرُ السَّعْدِ

أعَزُّ بني الْعَلْياءِ قَدْراً ورِفْعةً ... ومَن فرَعَ الشَّمَّاءَ مِن رُتْبةِ المَجْدِ

ومُقْتَعِدٌ مِن صَهْوةِ المجدِ سَابِقاً ... إذا ما دَنَا حَدُّ المُطَهَّمةِ الْجُرْدِ

ومُعْتقِلٌ لِلْعِزِّ صَعْدَة عَزْمِةٍ ... أنَابِيبُها رَعَّافةٌ بِدَمِ الأُسْدِ

ومُرْسِلُ أرْسالِ العَطايَا مُبارِياً ... بأيْسَرَها وُطْفَ الغمائِم في الرِّفْدِ

أيا مُفْتِيَ السُّلْطانِ إنَّك واحدٌ ... كَمالاً وهذا لستُ أشْهدُه وَحْدِي

وأنت ومَ يَهْواك في ذِرْوةِ الْعُلَى ... بفَخْرٍ ومن يَشْناكَ في وَهْدةِ الطَّرْدِ

وإنَّك والرحمنِ حِلْفَةَ صَادِقٍ ... لأمْثَلُ مَن أُهْدِي له دُرَرَ الْحَمْدِ

فلا زال أهْل العلمِ يَحْيا بفَرْعِكُم ... بفْضلِ إلهٍ فَيْضُه زادَ عن حَدِّ

رعَى اللهُ أيَّاماً مَضَيْنَ كأنَّنا ... بها قد غَنِمْنا العَيْشَ في جَنَّةِ الخُلْدِ

تولَّيْتَ فيها مصرَ تُوسِعُ أهْلَها ... نَوالاً يفُوق النِّيل في وَاسِعِ المَدِّ

وعَزَّزْتَ فيها الشَّرْعَ آيةَ عِزَّةٍ ... بحَدِّ حُسامٍ سُلَّ بالعِزِّ عن حَدِّ

فيا مَن له وُدِّي من الناسِ كُلِّهم ... ومَن هو لي من بَيْنهم غايةُ القَصْدِ

<<  <  ج: ص:  >  >>