ما أراها إلاّ كطَيْفِ خَيالٍ ... مَرَّ بي مُسْرِعاً وما شِيمَ مِثْلُهْ
إن أبهى ما نطق به لسان اليراع، وأشهى ما تشنفت بدرره الأسماع، سلامٌ يخجل الربى في أويقات البكور، ويزري بما تحملته الصبا من نشر الزهور.
أرق من دمعة المشتاق، وأصفى من الصهباء بما تضمنه من مكارم الأخلاق.
وأشجى من لوعة العشاق، ريثما تطاولت الأعناق للعناق.
وتحياتٌ زكية، ومحبةٌ صادقةٌ صديقية.
أتحف بها ترجمان أهل الأدب، والبالغ أقصى غايات الكمالات في كل ما دأب.
المنطيق الذي أعجزت فصاحته كل لسن، ذا التحقيق الذي هو بكل براعةٍ قمن.
والذي يهدي برائع عبارته طيب الوصل بعد الهجران، ويلفى من براعاته روضاً أينعت منه الأزاهر بفينان وأفنان.
كأنما مخانق الدرر خلصت من ترائب الآرام فألقيت في حدائق محاوراته، والحور العين برزت في غرر تلميحاته بتلميحات مطارحاته.
لوذعي الفكرة الوقادة، ألمعي الفطنة المستجادة.
من فاق قساً وأعجز المتنبي، حبيبنا السيد أمين المحبي.
كان الله ظهيرا، وفي كل الأمور نصيرا.
وبعد: فإنا لله الحمد والثنا، في صحةٍ وعافية وأرغد عيشٍ وأهنا.
غير أنا ملوعوا الجوانح، متعلقةٌ آمالنا بالمطامع والمطامح.
لورودكم لهذه الديار، والتملي بطلعتكم الحميدة المرأى والآثار.
فنرجو من فيض فضل الله الغزير، أن يهيء لكم التأهب لهذه الديار إنه على كل شيء قدير.
فكتبت إلى جنابه:
كيف يَنْسَى عَهْدَ المَوَّدةِ خِلُّهْ ... وهْو عن كلِّ ما سِوِى اللهِ شُغْلُهْ
يَرْتجِي به الرِّضا وحَقِيقٌ ... بانْتماءٍ إليه يَنْجَحُ سُؤْلُهْ
يا رَعى اللهُ مَن بعَهْدِ هَواهُ ... لِيَ منه الإسْعادُ والعِزُّ كُلهْ
بُغْيتِي منه أن أُمَرِّغَ خَدِّي ... بثَرَى نَعْلِه الرفيعِ مَحَلُّهْ
فإذا أسْعَفتْ حُظوظِي فمِثْلِي ... مَن يُباهِي الأيَّامَ بالفَضْلِ مِثْلُهْ
حضرة الأستاذ الذي حياتي بعهده مرتبطة، ونفسي بما يشتهيه مغتبطة.
إن لم أكن عنده، فقد استخلصني عبده.
فأنا أينما كنت، ما نقضت عهده ولا خنت.
نعم كان الواجب من رعى ذمته، أن أكون في بابه حليف خدمته.
فأسعى إلى سدته حبواً على القدم، وأستنهض في خطابه السان عوضاً عن القلم.
ثم لا أرضى له بباعي القصير، وعبارتي الموسومة بالعجز والتقصير.
حتى أكون استعرت ألسنةً تنطق حمداً وشكراً، واستنجدت أفئدةً توسع ثناءً وذكرا.
فكأن القول ذو سعة، والمغالاة هنا سنة متبعة.
وقد كان في حكم ما أولانيه الأستاذ من اعتنائه بشاني، واستدنائه لمكاني.
تبصراً منه بصلته، ورغبةً في مراعاة وصلته، أن أدع جميع المآرب جانبا، وأكون لجميع المشاهد سوى مشاهدته مجانبا.
لكن عدم الإمكان ثبطني عن هذا الغرض، وعاقني عن أداء هذا الواجب المفترض.
فأقمت معتكفاً على دعاءٍ أتخذه في أوقاتي ورداً، ولا أخلو من أماني لقاء الأستاذ التي أسقى بها على ظمأٍ بردا.
مقبلا بشفاه الأجفان مواطي نعاله، ذاكراً ما أسده لي من كرائم خصاله وجمائل فعاله.
وإذا لاحظت شخصه الممثل، وتصورت وده الموثل، أستقيم وأنحني، وأذكر أيام الحمى ثم أنثني.
وكانت لي حاجةٌ في ذمة زماني، ومأربةٌ بقيت في عهدة الأماني.
وهو ورود كتابٍ من الأستاذ يحل عقدة لساني في بيان ما أجد لبعده، ويتلافى في بعض رمقٍ ما كنت أحسبه يبقى من بعده.
حتى طلع كتابه فكان غيثاً كفى صيبه دعوة المستسقي، وماءً زلالاً روى بوروده ظمأ المستقي.
فكان أحسن من طلوع السعد، وأحلى من إنجاز الوعد.
فاتخذته مرتع ناظري، ومنتعش خاطري.
ونقلي إذا شربت، وداعيني إذا طربت، ومحدثي إذا خلوت، وعروسي إذا جلوت.
بل كان لي حظ الأماني من الزمان، وتوقيع النجاة من اليأس والحرمان.
فالله تعالى يبقى يداً وشته وحشته، ويديم راحةً مسته وجسته.
ثم فكرت في الجواب، وأنا متجرٍ جادة الصواب، فرأيت إن لم أجب، فما أديت ما يجب.
فأقدمت إقدام مذعور، وقدمت مقدمة معذور.
قائلاً: هذا ما انتهى إليه في العبارة جدي، وأنا على يقينٍ بأن هذا الشرط ليس من حدي.
على أنني لو أوتيت جوامع الكلم، لست ممن تخيل حصر كرام أوصاف الأستاذ أو علم.