هذا سعد السعود، الذي لو مس عوداً يابساً لعاد الماء في العود، حتى ينور خضرا، ويثمر غضاً نضرا.
ولد في طالع السخا، وغذي في بحبوحة الرخا.
ومارس المعارف ممارسةً كشفت له عن وجوه الحقائق، وأظفرته بفوائدها الجلائل، وفرائدها الدقائق.
فقدمه في العلم راسخة عالية، والمسامع بمحامده مقرطةٌ حالية.
وكانت أوقاته مقسمةً بين عارفةٍ ينيلها، وملمةٍ يزيلها، وفائدةٍ يبديها، وصنيعةٍ يسديها.
ومجلسه أوله ثناء جميل، وآخره دعاءٌ جزيل، وبينها ترحيبٌ وتأهيل.
ففخره يتقلده جيد الدهر وليته، وذكره يأرج له مسرى النسيم وهبته.
وله أدبٌ يتنافس فيه بلا تطرية مادح، وشعرٌ ورى فيه زنده ولم يقدح فيه قادح.
فمنه قوله مخمساً:
يا حادِيَ العِيسِ إن حَفَّتْ بك الْكُرَبُ ... الْحقْ هُدِيتَ برَكْبٍ ساقَهُ الطَّرَبُ
وقُلْ لِصَبٍ غَدَا بالشوقِ ينْتحِبُ ... لِمَهْبِطِ الوَحْي حَقّاً ترحَلُ النُّجُبُ
وعندَ هذا المُرَجَّى ينْتهِي الطَّلبُ
أعْنِي الرسولَ الذي قد شَرَّفَ الأُمَمَا ... ونال سائِلُهُ فوقَ الوَرَى قسمَا
يَلْقَى العُفاةَ بما يَرْجُون مُبْتسِمَا ... به تحُطُّ رِحالُ السَّائلين فَمَا
لِسائِلِ الدَّمْعِ ما يَقْضِيهِ ما يَجِبُ
إن رُمْتَ كشفَ العَنَا والحَوبِ والنُّوَبِ ... كذا الخَلاصَ مِن الأكْدارِ والنَّصَبِ
وأن تكونَ سعيداً غيرَ مُكتئِبِ ... قِفْ وِقْفَةَ الذُّلِّ والإطْراقِ ذا أدبِ
فعندَ حَضْرتِهِ يُسْتَلْزَمُ الأدبُ
يا مَن بِهِمَّتِه قد صار مُنطلِقَا ... وسكَّن الرُّوحَ منه بعدَ ما فَرَقَا
ذاك الحبيبُ الذي مِن صَفْوةٍ خُلِقَا ... له الملاحةُ خَلْقاً والنَّدَى خُلُقَا
والثَّغْرُ مُبْتَسِمٌ والكفُّ مُنْسكِبُ
إنْ أزْمةٌ أوْهَنتْ قلبي كذا جسدِي ... أو كُرْبةٌ فَرَّقتْ جُنْدِي كذا جَلَدِي
فليس لي نَاصِرٌ إلاَّك يا سَنَدِي ... يا سيِّدي يا رسولَ اللهِ خُذْ بيَدِي
فأنتَ حَسْبِي ومنكم يُعْرَفُ الحَسَبُ
سري الدين محمد الدروري المعروف بابن الصائغ ماجدٌ سرى، وفاضلٌ بكل مدحٍ حري.
قد ضربت البراعة رواقها بناديه، ولم يزل داعي البلاغة من كثبٍ يناديه.
مضى حيث يرتد العضب الصقيل وهو كهام، وبلغت هممه حيث تقصر عن مداركها خطا الأوهام.
فقعد حيث كيوان بإزائه، وعقد له الفلك ذوائب جوزائه.
إنَّ السَّرِيَّ إذا سَرَى فبنفسِه ... وابنُ السَّرِيِّ إذا سَرَى أسْرَاهُمَا
فهو ظرف علم، ووعاء حلم، ومن عرف حاله من الإيثار عرف الحلي كيف يصاغ، والسلاف الرائق في الأفواه كيف يساغ.
هو امْرؤٌ لا يصُوغُ الحَلْيَ تعملُه ... كَفَّاهُ لكنَّ فَاهُ صائغُ الكَلِمِ
وقد أوتي من حلاوة الأخلاق والبيان، ما يزرع حب الحب في الصميم من الجنان.
فنظمه جارٍ في بداعة الأسلوب على غير مثال، ونثره حقه أن يجعل كل فقرةٍ منه مثلاً من الأمثال.
جميع الأمثال منه تطرب، ولكونها لا تلحقه تضرب.
فمن نظمه قوله من قصيدةٍ، أولها:
رَعَى الله عَهْداً بالغَرامِ تقدَّمَا ... أراه بثَوْبِ الدهرِ وَشْياً مُنَمْنَمَا
وحَيَّى الْحَيَا منِّي ديارَ أحِبَّتِي ... وإن كان رَبْعُ الوُدِّ منهم تَهَدَّمَا
وإن كان وُدَّا في الْحَقيقةِ غيرَ أنْ ... عَشِقْتُ وأوْهَمْتُ الحِجَى فتوَهَّمَا
إلى كم أُضِيعُ العمرَ في أيْنَ هم غَدَوْا ... وحتَّى مَ يُسْليِنِي لعلَّ وأيْنَمَا
أُطالِبُ دهرِي أن يجودَ بقُرْبهم ... فما زادَ بالبُطْلانِ إلاَّ تَبَرُّمَا
وناشَدْتُه إلاَّ مُقاسمةَ الأذَى ... وصَفْوَ الليالي فاسْتقالَ وأقْسَمَا
وما ضَرَّهم لو أن بَرْقَ الْتقائِهمْ ... أضاءَ إذا لَيْلُ القَطِيعةِ أظْلَمَا
تبدَّتْ لِيَ الأيَّامُ في زِيِّ بَأْسِهِمْوسَلَّتْ بِكَفِّ الغَدْرِ للقَتْلِ مِخْذَمَا