للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وضحك مَشِيبي أنَّ عصرَ شَبِيبتِي ... يُودِّع جسماً ما أراه مُسَلِّمَا

هبَطْتُ إلى أرضِ المَذَلَّةِ بالذي ... تَخِذْتُ لِصَرْحِ العِزِّ مَرْقىً وسُلَّمَا

مما يتناسب معه قول الفاضل:

وقيل اهْبِطُوا مِصْرَ وأيُّ فَضِيلةٍ ... لِمِصْرَ وبَاغِي الرِّزْقِ في مصرَ يَهْبِطُ

وممَّا دَهانِي أنْ بَلِيتُ بأغْيَدٍ ... إذا إسْكارَ العقولِ تَبَسَّمَا

وإمَّا رَنَا واهْتزَّ غُصْنُ قَوَامِهِ ... فوَيْلُ الْمَهَا منه وتَعْساً على الدُّمَى

تَمَايَلَ وَسْنانَ الجُفونِ وما احْتسَى ... مُداماً وأصْمَانَا وما راشَ أسْهُمَا

ووَلاَّه سُلطانُ الجمالِ نُفوسَنا ... ألستَ ترَى دِيباجَ خَدَّيْهِ مُعْلَمَا

وما هو إلاَّ لاَنَ عِطْفَيْه جَانِباً ... فيَسْمَحُ لي في زَوْرَةٍ ثم يَنْدَمَا

زَرعتُ بلَحْظِي الوردَ في رَوْضِ خَدِّهِ ... أما آنَ أن يُجْنَى بِفِيَّ أمَا أمَا

وهَبْهُ حَمَى وَرْدِيَّهُ بِعذَارِهِ ... فمَنْعُ فَمِ العُشَّاقِ ذاك اللِّمَى لِمَا

اللمى، مثلثة اللام: سمرةٌ في الشفة، لمى، كرضى: اسودت شفته، وهو ألمى، وهي لمياء. هذه عبارة القاموس.

وأكثر ما يستعمله الشعراء، خصوصاً المولدون، في معنى الريق، ومما ينبغي أن ينبه عليه، أنه إذا وقع مع لم يستوجب أن يختار منه المكسور اللام، لقصد الموازنة، كما وقع هنا، وكما وقع في البيت الفارضي:

صَدٌّ حَمَى ظَمَئِي لِمَاكَ لِمَاذَا

فإن الموازنة بين الكلمات أمرٌ مستحسن عند النقاد البصيرين بموارد الكلام، فقد ذكر ابن جنى، عند الكلام على قول المتنبي:

بَلِيتُ بِلَى الأطْلالِ إن لم أقِفْ بها ... وُقوفَ شَحِيحٍ ضاع في التُّرْبِ خَاتِمُهْ

أنه قرأ البيت على المتنبي، ونطق بالتاء مفتوحة، فقال له المتنبي: اكسر التاء.

فقال له أبو الفتح: أليس الفتح أفصح؟ فقال: ألا تنظر إلى حركات ما قبل الميم يعني في القصيدة كيف تجد الجميع مكسوراً.

فعلم مراد المتنبي، وأثنى عليه.

وأدل دليلٍ على التزام الموازنة قضية الازدواج المذكور، مع أن فيه عدولاً عن الأصل لأجل الموازنة، كقول النبي صلى الله عليه وسلم للنساء المتبرجات في العيد: " ارجعن مأزوراتٍ غير مأجوراتٍ "، وقوله في عوذته للحسن والحسين: " أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطانٍ وهامةٍ، ومن شر كل عينٍ لامةٍ "، والاصل في مازورات موزورات لا شتقاقه من الوزر كما ان الاصل في لامة ملمة، لأنها فاعل من ألمت.

وقالت العرب: الغدايا والعشايا. والأصل في الغدايا: الغدوات، وقالوا: هناني الشيء ومراني. والأهل في مراني: أمراني. وليس تغيير مبانيها إلا للقصد المذكور، ولهذا إذا استعملت شيئاً من هذه الألفاظ مفردة رددتها إلى أصولها.

ومن منشآته قوله من كتاب: سيدي الذي سكن فؤادي، وسلب رقادي، واستأثر بودادي، وقصر على محبته والنزوع إلى رؤيته سويداي وسوادي.

فيا من ملك زمام العلوم، من كل منطوقٍ ومفهوم، وساعده التوفيق، على أن جمع بين التحقيق والتدقيق.

وإذا هُما اجْتمعَأ لنفسٍ مَرَّةً ... بلَغتْ مِن العَلْياءِ كلَّ مَكانِ

أعيذ طبعك ذلك الغواص المواج، وصدرك ذلك البحر الثجاج، وفهمك ذلك السراج الوهاج، من أن ترضى بأن أصبر على الظما، وأن أبقى في ظلمة الهجر والنوى.

ولم تغث مسرح بصيرتي بنوء، ومطمح نظري ببعض ضوء.

وهو حفظه الله تعالى يعلم أن من مداده أمدادي، ومن سنا طبعه الوقاد هدايتي ورشادي.

وعلمه محيطٌ بما في احتباس القطر من ضجر النفوس، وبما في خفاء الشمس من الوحشة والعبوس.

وأنا أشكو تعطشي إليه، وأعرض حال وحشتي من بعده عليه.

فهو حفظه الله تعالى إذا شاء أثلج بخطابه الأحشا، وأنا بكتابه ناظرٌ أصبح لغيثه أعشى.

ومما ينسب إليه، في توجيه بيتٍ لأبي تمام، وهو:

زَارَ الْخَيالُ له لا بَلْ أزَارَكَهُ ... فِكْرٌ إذا قامَ فِكْرُ الخَلْقِ لم يَنَمِ

<<  <  ج: ص:  >  >>