للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يا مَن له مُهْجتِي رِقٌّ ولِي شَرَفٌ ... بأنَّنِي عبدُه جَهْرِي وإسْرَارِي

عَتَقْت قلبيَ من زَيْغٍ ومن زَلَلٍ ... وعِتْقُ ذِي سَفَهٍ فيما بَقِي سَارِي

مَنَنْتَ باللُّطْفِ في الأُولى ولا عَجَبٌ ... أن تعْتِقَ الجسمَ في الأُخرى من النارِ

منه قول البدر القرافي:

منك البَداءةُ بالإحْسانِ حَاصِلَةٌ ... مَلَّكْتنِي الرِّقَّ فضلاً منك لي سارِي

ألْهَمْتنِي بعدَه عِتْقاً لتُكْرِمَنِي ... فاخْتِمْ بخيرٍ به عِتْقِي من النارِ

وللحافظ ابن حجر:

يا رَبِّ أعْضَاء السُّجُّودِ عَتَقْتَها ... من فضلِك الوافِي وأنتَ الْوَاقِي

والعِتْقُ يَسْرِي في الغِنَى يا ذا الْغِنَى ... فامْنُنْ علَى الْفانِي بعِتْقِ الْباقِي

والأصل فيه قول ذي الرمة، قال الشريشي: وهو آخر شعرٍ قاله:

يا رَبِّ قد أسْرَفتْ نَفْسِي وقد عَلِمَتْ ... عِلْماً يَقيناً لقد أحْصَيْتَ آثارِي

يا مُخْرِجَ الرُّوحِ من نفسِي إذا احْتُضِرتْ ... وفارِجَ الكَرْبِ زَحْزِحْنِي عن النارِ

وله من فصل في معرض شكاية من الزمن: قد كان الفضل في المراقي، من نصل عيون الدهر هو الراقي، والترقي في الأدب به التوقي من النصب والوصب، وكل هذا ذهب، وانحصر الدواء في الفضة والذهب.

فالمفلحون بخبايا النقود قعود، والمفلسون في زوايا الخمول رقود.

فدع فضل العلم والنسب، واسع أن يكون لك من المال خير نشب.

فقد كان الأدب وديعةً واسترد، وصار الدرهم مرهماً ولبرء ساعةٍ استعد.

ومن هذا القبيل قول زين الدين الجزري من مقامةٍ له: قد كان شراب الأصول يداوي العليل، والآن ليس في غير الدينار شفاءٌ للغليل.

ألم تسمع أن الدراهم، لجروح العدم مراهم! وقد استردت الأيام، ودائع المكارم والكرام! يس الحمصي العليمي نزيل القاهرة منتمى بدع الفنون، ومنتدى نزه العيون.

الذي بعث نفساً عاطراً إلى الإحسان، وأثبته عقداً نفيساً في جيد الكواعب الحسان.

يتناول المعاني والألفاظ من مدىً قريب، وإن مد باعه فمن سحابٍ وإن اغترف فمن قليب.

وحواشيه حواشي خدود، لا حواشي برود، وتخريجات أصداغٍ على وجنات، أو سوالف على خدود غانيات.

وله أشعار تحل لها عقد الحبى، وتهتز لها النفوس كما يهتز تحت القطر الربى.

وكان عهده قد جمع نضارة الورد إلى بقاء الآس، وافتر عن رقة المدامة في نقاء الكاس.

وهو يرجع إلى شيمٍ دمثة، وهممٍ على الخير منبعثة.

طالما هبت منه على طلبته نسمة المنى، فنبهت من أفواههم زهرة الثنا.

وقد أثبت له ما إذا تلي وصف نفسه، وأطلع نهار طرسه شمسه.

فمنه قوله:

في لَحْظِه سِحْرٌ فلم أرَ صَارِماً ... في غِمْدِه يَفْرِي سِواهُ فمن يَرَى

عَجَباً لغُصْنِ الْبانِ مَن أعْطافُه ... فوقَ الكثيب لبَدْرِ تِمٍ أثْمَرَا

صَبَّرتُ عنه القلبَ فهو بصَبْرِهِ ... مَيْتٌ عسَى يَرْثِي لِمَيْتٍ صُبِّرَا

وحدِيثُ دمعِي مُرسَلٌ لمَّا غَدَا ... منه الصُّدودُ مُسَلْسَلاً يا ما جَرَى

فالرأسُ مُشْتعِلٌ بشَيْبِ صُدودِهِ ... والعَظْمُ أضْحَى وَاهِياً وقد انْبرَى

والقَلبُ من مُوسَى لِحاظٍ قد غدَتْ ... مَرْضى كَلِيمٍ وهْو لن يتغيَّرَا

إن رَامَ مَرْأىً مِن بَدِيع جمالِهِ ... جعَل الجوابَ له وحَقِّي لن تَرَى

واللَّحْظُ مِنّي حين أبْصر خَدَّهُ ... فيه الربيعُ جَرَى عليه جَعْفَرَا

يا ذا الذي قد زَارَ طيف خَيالهِ ... وأتى بَخِيلاً ما تأهَّل لِلْقِرَى

بالطَّيْفِ قد مَنَّيْت لكنْ بالأذى ... أتْبَعْتَه فسلَلْتَ من عينِي الْكَرَى

ما زار إلاَّكي يُعاتبَني على ... نَوْمِي فيُفْنِيهِ ويجْنَحُ للسُّرَى

ولَرُبَّ ليلٍ طال حتى إنَّني ... قد قلتُ لو كان الصباحُ لأسْفَرَا

لكنْ ذكرتُ بطُولِه وسَوادِهِ ... شَعْرَ الحِسانِ فطاب لي أن أسْهَرَا

<<  <  ج: ص:  >  >>