هذا زمانُ الشُّحِّ والإقْتارِ ... مضَى زمانُ الجُودِ والإيثارِ
من كلَّف النفوسَ ضِدَّ طَبْعِهَا ... أعْيَى بما لا يُرْتجَى مِن نَفْعِهَا
وإنَّ مَن خَصَّ لئيماً بنَدَى ... كان كمن رَبَّى لِحَتْفٍ أسَدَا
قد يبلُغون رُتَبَاً في الدنيا ... لكنَّهم لا يبلُغون العَلْيَا
إنَّ المعالِي صَعْبةُ المَراقِي ... مِن دُونها الأرواحُ في التَّراقِي
لا تسْتوِي في الرَّاحةِ الأناملُ ... ورُبَّ مَأْمولٍ عَلاهُ الآمِلُ
قد تُورِدُ الأقْدارُ ثم تُصْدِرُ ... وتُدْبِرُ الأقمارُ ثم تُبْدِرُ
بالجُودِ يَرْقَى المرءُ مَرْقَى الحمدِ ... إن السَّخاء سُلَّمٌ للمَجْدِ
وعَوِّذِ النَّعْما من الزَّوالِ ... بكَثْرةِ الإحسانِ والنَّوالِ
يضُوع عَرْفُ العُرْفِ عند الحُرِّ ... وإنه يَضِيع عند الغِمْرِ
وإنما المعروفُ والصَّنِيعهْ ... تُعْرَف عند أهلِها وَدْيعهْ
الرأيُ كلّ الرَّأْيِ في تَرْكِ الكُلَفْ ... فقد مضَى عليه ساداتُ السَّلَفْ
ومن تغُرُّ عَقْلَه السَّلامهْ ... تخدمُه ألْسِنةُ النَّدامَهْ
من لزِم السِّلْمَ من الحرب سَلِمْ ... ومَن أبَى إلاَّ هوَى النفسِ نَدِمْ
يأْرَجُ بالنَّسِيم عَرْفُ الرَّنْدِ ... والقَدْحُ أصلٌ في ثُقوبِ الزَّنْدِ
لكلِّ قلبٍ في طِلابِه هوَى ... وقِسْ عليه الدَّاء يحْتاجُ الدَّوَا
مَن طلَب الدُّرَّ بقَعْرِ البحرِ ... لم يَخْلُ مِن شُرْبِ الأجاجِ المُرِّ
دَعْ في الأمورِ الحَدْسَ والظُّنونَا ... لابُدَّ للمقْدورِ أن يكونَا
ما قِيمةُ الآمالِ للقُصَّادِ ... والموتُ للإنسانِ بالمِرْصادِ
إذا بَقِي من الجَدَى ما قانَكْ ... فلا تكُنْ تَأْسَى على ما فاتَكْ
ربَّ اجْتهادٍ دونه الجِهادُ ... في راحةٍ مَن لا له مُرادُ
ما ينْفعُ التَّدْبيرُ والتَّقديرُ ... ينْبِضُ قَوْسُه ولا تَوْتِيرُ
قَراقِعٌ ما تحْتهُنَّ طائِلُ ... إلاَّ مِحَاقُ العُمْرِ والغَوائِلُ
قد ذهبتْ مَكارمُ الأخلاقِ ... إلاَّ من الأمثالِ والأوْراقِ
تغيَّر الإخوانُ واخْتلَّ الزَّمَنْ ... فلا صديقَ غيرُ صِحَّةِ البَدَنْ
لا تكْتُمنَّ دَاءَك الطَّبِيبَا ... ولا الصديقَ سِرَّك المَحْجوبَا
هذا إذا كانَا عسى وعَلَّما ... وما أظنُّ الدهرَ يسْخو بِهِمَا
كفى عن المَخْبَرِ مَنْظَرٌ أطَلّ ... في حُمْرةِ الخَدِّ غِناً عن الخَجَلْ
مَنْظَرُ كلِّ ماجدٍ مِعْيارُهُ ... إنَّ الجوادَ عَيْنُه فُرَارُهُ
مَن سابَق الجَوادَ بالحِمارِ ... جَنَتْ يداه ثمرَ العِثارِ
قد تُسعِف الأقدارُ بالسُّعودِ ... فتُلْحِق المَحْدُودَ بالمَجْدُودِ
كم قد نصَبْتُ للأماني مَرْمَى ... مُفَوِّقاً منِّي إليه سَهْمَا
فلم يكُن لي عنده نَصِيبُ ... ما كلُّ رامِي غَرَضٍ يُصِيبُ
والسَّعْدُ إنْ ما كان حيناً أبْطَا ... فلا تقُلْ بأنه قد أخْطَا
إذْ ربما قد عَوَّقتْه الأقْدارُ ... وكلُّ شيءٍ عنده مِقْدارُ
في يَدكِ الحُزْنُ متى تشاءُ ... فاغْنَمْ سُروراً تَرْكُه عَناءُ
ما كلُّ وقتٍ مُسْعِفٌ بما يُحبّ ... فإن يكُن دَرَّتْ لَبُونٌ فاحْتَلِبْ