وقد تطَّفل المحب بهذه العجالة على جنابه، فليغضِ عليه طرف حلمه، وليجرِ في التَّرسُّل على سننه ورسمه.
السيد أحمد بن علي الصَّفُّوري حسيبٌ طرَّز كمَّ الأحساب، ونسيبٌ باهت بنسبته الأنساب.
محلُّه سرُّ المطلوب، وقرارة محبَّته حبَّة القلوب.
من سراةٍ أنوفهم شم، ووجوههم غر، وعزَّتهم قعساء، ونسبهم حر.
لهم القدر الأغلى، وشرفهم الشَّرف الأعلى.
وهو ممن تأثَّل مجده في بحبوحة ذلك الشَّرف، وتبوَّأ من السِّيادة أسنى الغرف.
مرتويةً أفياؤه بماء النبوَّة، متأرِّجةً أرجاؤه بعبير الفتوَّة.
مع مهارةٍ في العلوم، ومحاضرةٍ مستفزةٍ للحلوم.
وأخلاقٍ صقلها الكرم الوضَّاح، وطبيعةٍ شغف بها الكمال الفضَّاح.
وله أدبٌ تردَّى بالبراعة وتوشَّح، وشعرٌ استعدَّ للقبول التامِّ وترشَّح.
فمنه قوله:
أيا ربِّ قد مكَّنتَ في القلوبِ حبَّهُ ... وحكَّمتهُ في الصبِّ بالقولِ والفعلِ
وألهمتهُ الإعراضَ عنِّي ولم تدعْ ... لقلبيَ صبراً عنه في الهجرِ والوصلِ
فألهمهُ إحساناً إليَّ فليس لي ... سوى لُطفكَ المعهودِ إن لم تكنْ تُسلي
وإلا فسوِّ الحبَّ بيني وبينهُ ... فإنَّك يا مولايَ توصفُ بالعدلِ
وهذا أسلوب لطيف، وهو نقل أسلوب من الكلام إلى آخر تظرُّفاً، كاستعماله في الغزل ما عهد وروده في الدعاء والمناجاة.
كقول صدر الدين بن الوكيل:
يا ربِّ جَفني قد جفاهُ هجوعهُ ... والوجدُ يعصي مهجتي ويطيعهُ
يا ربِّ قلبي قد تصدَّعَ بالهوى ... فإلى متى هذا البعادُ يروعهُ
يا ربِّ بدرُ الحيِّ غابَ عن الحمى ... فمتى أراهُ وفي القبابِ طلوعهُ
يا ربِّ في الأظعانِ سارَ فؤادهُ ... يا ليته لو كان سار جميعهُ
يا ربِّ لا أدعُ البكا في حبِّهمْ ... من بعدهمْ جهدُ المقلِّ دموعهُ
يا ربِّ عذِّبْ في الهوى من ساءني ... بمقالهِ أحلى الهوى ممنوعهُ
يا ربِّ هذا بينه وبعادهُ ... فمتى يكونُ إيابهُ ورجوعهُ
ومثله استعمال الغزل على طراز الأوامر السُّلطانيَّة، كقول الشاب الظريف:
أعزَّ الله أنصارَ العيونِ ... وخلَّدَ مُلكَ هاتيكَ الجفونِ
وأسبغَ ظلَّ ذاكَ الشَّعرِ يوماً ... على قدٍّ به هيفُ الغصونِ
وللسيد أحمد، كما رأيته بخطه:
إذا أنتَ لم تقربْ يناجيكَ خاطري ... وإن تدنُ منِّي فالجوارحُ أعينُ
لأنَّكَ مطلوبي على كلِّ حالةٍ ... وإن أكُ مختاراً فرؤياكَ أحسنُ
ورأى حكمةً تؤثر عن الإمام محمد بن الحنفية، وهي: ليس بحكيمٍ من لم يعاشر بالمعروف من لم يجد من معاشرته بداً، حتى يجعل الله له فرجاً، ومن الضيق مخرجاً.
فنظمها في قوله:
إذا أنت لم تقدرْ على تركِ عشرةٍ ... لذي شوكةٍ فانصحْ وعاملهُ بالرِّفقِ
ولا تضجرنْ من ضيقِ ما قد لقيتهُ ... عسى فرجٌ يأتيكَ من خالقِ الخلْقِ
وكتب إلى صديقٍ له يعتذر عن وعدٍ لم يوفِّه:
أيا من فضلهُ والجودُ سارا ... مسيرَ النَّيِّرينِ بلا معارضْ
وعدتكَ سيِّدي والوعدُ دينٌ ... ولكن ما سلمتُ من العوارضْ
السيد محمد بن علي، المعروف بالقدسي فرعٌ من شجرةٍ طيِّبة المنابت، ثبت أصلها وزاحمت أغصانها الثَّوابت، تسامت بنسبة النُّبوَّة معاليها، واخضرَّت بماء الرسالة أعاليها.
فكأنما كُسيت من سندس الجنَّات، فشفَّت عنها مرآة الزَّمان بأحسن الحسنات.
وهذا السيد وإن قاربت رحلته من السنين المائة، فذكره مخلَّدٌ في ألسنة الجيل بعد الجيل والفئة بعد الفئة.
تتحاسد على رقة طبعه الطِّباع، كما تتحاسد على رباعه المقدَّسة الرِّباع.
فروض فضله ممرِع خصيب، وله في الأدب الغضِّ أوفى حظٍّ ونصيب.
إلا أنه في آخره غلبت عليه سوداؤه، فبلغ من نفسه ما كان يتوقَّع أن يبلغه أعداؤه.
فمن شعره، قوله في هجاء الشمس بن المنقار، لما تعصَّب على الداودي، ومنعه التحديث:
منعْتَ ابن داوُدَ الحديثَ بجلِّقٍ ... وما مثلهُ في الشَّامِ والله من قارِ