وتزعُمُ حصرَ العلمِ فيكَ بجلِّقٍ ... فتنقرُ أهلَ العلمِ فيها بمنقارِ
سيأتيكَ من ربِّي بلاءٌ وفي غدٍ ... ستلقى بوجهٍ يا ابن منقارَ من قارِ
وحكى البوريني أنه صحبه إلى منين، في يوم أديمه مطرزٌ، ونديمه في مجلس أنسه معزز.
فحلوا في روضٍ نسام، يضحك عن زهرٍ بسام.
أصائله متوافقة مع أسحاره، وشمسه لا ترى إلا من فرج أشجاره.
بين ماءٍ يتدفق، وهواءٍ عن المسك يتقتَّق.
وبينهم حديثٌ أحلى من الشهد في الفم، وألذُّ من قبل الغيد عند الضَّم.
فلما دنا وقت الظِّهيرة، ولفح حرُّ الهجيرة.
انفرد السيد في مكان، ليأخذ من القيلولة حظًّا بقدر الإمكان.
فخاطبه البوريني:
بحقِّكَ خلِّي لا تُضعْ فرصةَ المنى ... وبادرْ إلى هذا الغديرِ المسلسلِ
وإن لم تجد زهرَ الرِّياضِ فإنَّنا ... نريكَ زهوراً من كلامٍ مرتَّلِ
فنشط من ذلك المقيل، نشاط مالك إلى أخيه عقيل.
ثم كتب في وصف المجلس بيتين:
على غديرٍ جلسنا في مفاوضةٍ ... ودوحهُ قامَ من سوقٍ على ساقِ
فخلتُ أغصانَ ذاك الدَّوحِ باكيةً ... تريدُ تكتُب ما نُملي بأوراقِ
فخاطبه البوريني:
جلسنا بروضٍ فيه زهرانِ أُسقيا ... بماءِ افتكارٍ والمياهِ الدَّوافقِ
فمن زهرٍ يُبديه روضُ كلامنا ... ومن زهرٍ يبديه روضُ الحدائقِ
ولما رجعوا من منين، مروا على التل، فأقاموا بها يومهم يروون الأبصار من روضة المبتل، ثم فارقوها، فكتب السيد إلى البوريني يداعبه:
أيا روضةَ الآدابِ والفضلِ والحجا ... ومن فاقَ في جمعِ الكمالِ على الكلِّ
تُرى هل يعودُ الدَّهرُ يوماً بجمعنا ... فنرقى كما شاءَ الفؤادُ على التَّلِّ
فراجعه بقوله:
أيا سيِّدَ الساداتِ يا من بنانهُ ... تضيفُ الورى بالجودِ في زمن المحلِ
إذا ساعدَ الحظُّ السَّعيدُ فإنَّنا ... نطلُّ على الوادي ونرقى على التَّلِّ
وكان بدمشق خطيبٌ يعرف بابن يونس، أعرج أعوج، كما قال الفاضل: قامت العصا بيده مكان رجله، وقلَّت أعواد الأغصان من أجله.
وكان متَّهماً في الاعتقاد، لا يزال يرميه سهم الانتقاد.
وكان من جهله يتعرَّض للفتيا، ويعدُّ نفسه أثقب القوم رأيا.
فكتب يوماً على حكمٍ لقاضٍ: إنه باطل، ومن حلْي الحقيقة عاطل.
فأحضره القاضي في مجلسٍ غاص، جمع بين عالمٍ وخاص.
ثم أفسد ما قاله، وما أهمله من التِّعزيز ولا أقاله.
فكتب بعض القوم فيه رسالة أوسع فيها المقال، وقرَّظ عليها علماء ذلك العصر، ومنهم السيد فقال: وقفت على هذه الرسالة، التي سارت بسيرتها الرُّكبان، وتناقلها أكابر الفضلاء في هذا الزمان.
فوجدتها غريبة المثال، معربةً عن قائلها بأن لسان الحال أفصح من لسان المقال.
قد تضمَّنت ما انطوى عليه هذا الغمر من القبائح، وما انتشر منه في هذا العمر القصير من الفضائح.
فإنه قد مشى على غير الاستقامة، حسًّا ومعنًى، وأنشد قول القائل في ذلك المعنى:
من يستقمْ يُحرمْ مناهُ ومن يزغْ ... يختصُّ بالإسعافِ والتَّمكينِ
انظرْ إلى الألفِ استقامَ ففاتهُ ... عجمٌ وفازَ به اعوجاج النُّونِ
تصدَّر للفتيا مع أنه أجهل من توما الحكيم، وأنصفه حمار ابن حجيج فركبه في الليل البهيم.
قد فتح فاه بجهله، وصدَّر فتياه بقوله: الحمد لله سبحانه، والشكر له تعالى شانه.
ولم يميز في السَّجعتين بين الفاعل والمفعول، فكأنه اشتغل بباب البدل مع حبه فحصل له هذا الذُّهول.
لأنه رأى في كتب النُّحاة المهذَّبة، أن الفاعل على ما أسند إليه فعله، فظنَّه بهذه المرتبة.
ولو سئل لأبرز من ضميره هذا الخاطر، وحلف بأبي حمزة أن هذا هو الظَّاهر.
لا يستوي معربٌ فينا وذو لحنٍ ... هل تستوي البغلةُ العرجاءُ والفرسُ
وطالما عرج على درج المنبر، وجعل أمرده أمامه، ولولا النَّقيَّة لجعله إمامه.
وما تلفَّت على المنبر يميناً وشمالاً، إلا ليقتنص ظبياً أو يصيد غزالا.
وإذا ترنَّم وأظهر الخشوع، واهتزَّ لغير طربٍ وأجرى الدُّموع.