فلأجل مليح رآه عند المحراب، ولم يستطع أن يشافهه بالخطاب.
أو ليخدع بعض الحضَّار، من الأتقياء الأخيار.
فأنشدتُه ارتجالاً، وأنفاسي تتصعَّد، ومهجتي بنار الكمد تتوقد:
أفاضلَ جلَّقٍ أين العلومُ ... وأين الدِّين مات فلا يقومُ
يُجاهركمْ خطيبكمُ بفسقٍ ... ويُفتي فيكمُ توما الحكيمُ
وما أراه ارتقى هذه المكانة، إلا بالرشوة والتزوير والخيانة.
وما كفاه أخذه التَّدريس بالتدليس، وخوضه في الفتن التي فاق فيها على إبليس.
حتى دخل على العلماء من غير باب، وردَّ أقوالهم بغير صواب.
تراهُ مُعدًّا للخلافِ كأنَّهُ ... بردٍّ على أهلِ الصَّوابِ موكَّلُ
فيا أيها المجتري، والغمر المفتري.
أراك قد سوَّل لك زعمك الفاسد، وصوَّر لك فكرك الكاسد.
أن الله قبض العلماء ولم يبق منهم أحد، واتخذ الناس رؤساء جهَّالاً في كل بلد.
فتضلَّ الناس كما ضللت وتعدَّيت، وتنفق بضاعتك الكاسدة بقولك أفتيت.
قولوا لأعرجَ جاهلٍ مُتكبِّرٍ ... قد جاءَ يطلبُ رفعةً وتقدُّما
دعْ ما ترومُ فإنَّ حظَّكَ عندنا ... تحت الحضيضِ ولو عرجتَ إلى السَّما
كلا، إن أمرك مما يدل على جهلك المركَّب، وعدم فهمك الذي هو من ذاك أعجب.
إنك ترى دمشق مشحونةً بالأفاضل، الذين ليس لهم في الدهر من مماثل.
وهم مشغولون بالعلوم وتحريرها، وتنقيح المسائل وتقريرها.
وأنت تغالط بنفسك، وتدخلها مع غير أبناء جنسك.
وتترفَّع على من لا يرتضيك لتقبيل رجله، ولا يراك أهلاً لخدمة نعله.
دع الفخر فلست من فرسان هذا الميدان، ولا أنت ممن أحرز قصب السبق يوم الرهان.
وما لك شيخٌ في العلوم والتدريس، سوى أبي مرة اللَّعين إبليس.
فما زلت تسلك في مسالكه، وتقع في مهاوي مهالكه.
حتى أنشد لسان حالك، في قبيح سيرتك وخبث أفعالك:
وكنتُ فتًى في جندِ إبليسَ فارتقى ... بي الحالُ حتى صارَ إبليسُ من جندي
فلو عشتُ يوماً كنتُ أحسنُ بَعدهُ ... طرائقَ فسقٍ ليس يحسنها بعدي
ولما تبيَّن أمرك طردك حضرة المولى وأقصاك، وحجب سمعه عن تُرَّهاتك وما أدناك.
فتضاعف له الدُّعاء من سائر الورى، وترادف له الشُّكر من أهل المدائن والقرى.
فالله يمدُّ أطناب دولته السَّعيدة، ويديم صولته الشَّديدة.
بمحمدٍ وآله، ومن سلك على منواله.
حفيده السيد محمد بن علي هو الحفيد السيِّد، صاحب القريض الجيد.
له الطلاقة الهادرة، والبداهة الغريبة النَّادرة.
أدركته وقد شاخ، لكن جمر عزمه ما باخ.
ورماه وهن العظم، بكلال الخاطر عن النَّظم.
إلا أن له في مصادمة الشدائد قوَّةً نفسيَّة، هي أحرى بأن تُمدَّها قوَّةٌ قُدسيَّة.
فهو في حلِّه وترحاله، وخصبه من الآمال وإمحاله.
لا يقرُّ له قرار، ولا ينجلي له سرار.
كأنَّ له عزماً لا يرى بدًّا من إمضائه، ودَيناً في ذمَّة الأيام لا ينثني عن اقتضائه.
وربَّما نال في بعض الوثبات، ما يجدِّد العزائم والرَّغبات.
حتى جاء من العمر على أوفاه، واقتصَّ من مداه الطَّويل واستوفاه.
وقد أثبتُّ من شعره ما كسا أعطافه بروداً مُخضرَّة، وصيَّره في الإشراق للشمس ضرَّة.
فمن ذلك قوله في قصيدة، مطلعها:
يا نسمةً نَسمتْ حبيبي ... وتمسَّكتْ منهُ بطيبِ
وغدا يُحرِّكُ لُطفها ... أعطافَ باناتِ الكثيبِ
تمشي وتسحبُ ذَيلها ... قبل العيونِ على القلوبِ
إن جُزتِ وادي جِلَّقٍ ... وحللْتِ بالرَّوضِ الرَّحيبِ
ونظرتِ أقمارَ الحمى ... ومررتِ بالظَّبيِ الرَّبيبِ
ورأيتِ من لفتاتهِ ... ما منهُ أشجانُ الكثيبِ
وصدفتِ مُتلفَ مهجتي ... يزورُّ باللحظِ الغضوبِ
يرمي سهامَ لحاظهِ ... فترى النُدوبَ على النُّدوبِ
يرنو فلا يُخطي الحشا ... ويلاهُ من سهمٍ مصيبِ
أو جزتِ أرضَ النَّيرب ... ينِ مع الصَّباحِ أو المغيبِ
ودخلتِ جامعها الشَّري ... فَ مُقامَ أرباب القلوبِ