فسيَّر له ما طلب، وكتب معه:
مقصدُ ذا العبد من تفضُّلكمْ ... من غيرِ مَنٍّ قبولُ ذا الشَّدِّ
قد سدتَ فضلاً وشدتَ كلَّ علاً ... وقد شدَدتَ القلوبَ بالودِّ
تاج الدين بن أحمد المحاسني هو لمفرق الرِّياسة تاج، ولراية السماحة عقيلة نتاج.
رحل مراراً إلى القاهرة مهاجراً، واعتمدها في طلب العلم تاجراً.
ليجتهد في جمعه وكسبه اجتهاد مغترب، ويملأ من بضائعه ونفائسه وعاءٍ غير سرب.
فما رجع حتى خوَّله الله كمال محاسنه ومحاسن كماله، وأمدَّ جمال رونقه ورونق جماله.
فأقام له الذِّكر المستطاب، والثَّناء الذي ملأ الوطاب.
وهو في الأدب وأنواعه، جامعٌ لإبداعه وإيداعه.
وله كلماتٌ تنشئ الزَّخارف، وتتعلَّم منها النَّقد الصَّيارف.
وقد أوردت من شعره، ما يغالي في سعره.
فمنه ما كتبه في صدر رسالةٍ من مصر إلى ابنه محمد:
أبداً إليكَ تشوُّقي يتزايدُ ... ولديكَ من صدقِ المحبَّةِ شاهدُ
وأليَّةً إنَّ البعادَ لمتلفي ... إن دامَ ما يُبدي النَّوى وأكابدُ
كم ذا أعلِّلُ حرَّ قلبي بالمنى ... فيعيدهُ من طولِ نَأيكَ عائدُ
جار الزَّمانُ عليَّ في أحكامهِ ... ولطالما شكتِ الزَّمانَ أساودُ
فيه نقد، إذ الأساود جمع أسود، وهو العظيم من الحيَّات، وليست من عظم القدر بمثابة أن يُلتفت إلى شكايتها من الزمان، وكأنه ظنَّ أن الأساود جمع أسد، وليس كذلك.
والدهرُ حاولَ أن يصدِّع شملنا ... فامتدَّ منهُ للتَّفرُّقِ ساعدُ
يا ليت شعري هل يرقُّ وطالما ... ألفيْته لأُلِي الكمال يعاندُ
أشكوكَ للمولى الذي ألطافهُ ... تُزري الخطوبَ إذا أتتْ وتساعدُ
وله:
يا أحبَّايَ والمحبُّ ذكورٌ ... هل لأيامِ وصلِنا من رجوعِ
وترى العينُ منكمُ جمعَ شملٍ ... مثلما كان حالةَ التَّوديعِ
وأهدى إلى بعض العلماء سجادة، وكتب معها:
مولاي قد أهديتُ سجَّادةً ... هديةٌ من بعضِ إنعامكمْ
فلتقبلوها إذ مُرادي بأن ... تنوبَ في تقبيلِ أقدامكمْ
مثله للشهاب، وقد أهدى منديلاً:
بعثتُ إليك يا أقصى الأماني ... بمنديلٍ فإن يُقبلْ لديكا
فليس بضاعةً تُهدى ولكن ... بعثتُ به يُقبِّلُ لي يديكا
ولابن نباتة، وقد أهدى سجادة:
إنَّ سَجَّادتي الحقيقة قدراً ... لم يفُتها في بابكَ التَّعظيمُ
شرُفَتْ إذ سعتْ إليكَ وأمستْ ... وعليها الصَّلاةُ والتَّسليمُ
وقال بمصر، يتشوَّق إلى دمشق:
منذُ فارقتُ جِلِّقاً ورُباها ... لم يزُر مقلتي لذيذُ كراها
وبسكانها الأحبَّةِ عندي ... فرطُ شوقٍ يكادُ لا يتناهى
فسقى الله ربعها كُلَّ غيثٍ ... وحمى الله أهلها وحماها
ولهذا الرئيس أبناء كأسنان المشط في التساوي، إذا عُدّت محاسن غيرهم فهي بالنِّسبة إليهم مساوي.
ذكرت منهم كوكبين لاحا في سمائه، وبلَّغهم الله شهرة الكمال، مُعوَّذين بأسمائه.
ولده عبد الرحيم هو من أولاده الكبير، الفائح ثناه بالعنبر والعبير.
نشأ في حجره، وشذا بين سحر القول وفجره.
فهو شابٌّ تدفَّق شؤبوبُ براعته، وتفتَّق عن زهر الربيع روض يراعته.
فأمطر وما استبرق، وأثمر وما استورق.
فللَّه، ما أتمَّ شمائله، وأنمَّ بأنوار المحاسن خمائله.
بحظٍّ من الكمال وافر، ووجهٍ من الجمال سافر.
إلى همَّةٍ أنارت مطلعه، وضمَّت على الشَّغف بالأدب أضلعه.
لكنه لم يلمحه الناظر، حتى قصف قصفة الغصن الناضر.
وقد رأيت له شعراً في صحف الإحسان وثبت، وبلغني أنه أطلعه ونبت، ووجهه قد همَّ أن ينبت أو نبت.
فأثبتُّ منه ما تستحسنه استحسان خطِّ العذار، وتستطيبه استطابة مناجاة محبَّين بعتب واعتذار.
فمنه قوله في الغزل:
ملَّتِ العذَّالُ عن عذلي وما ... ملّ جفناكِ من الفتك بقلبي
لو رآكِ النَّاسُ بالعينِ التي ... أنا رائيك بها ما ازداد كربي