واستراح القلبُ من عذلهمُ ... إنَّ طول العذلِ داءٌ للمحبِّ
بل ولو كان بهم مثلُ الذي ... بفؤادي لم يمتْ شخصٌ بنَحبِ
ويستحسن له قوله:
تطاولتِ الخمرُ اختباراً لِعقْلنا ... فقالتْ لنا إنِّي كجفنيهِ أُسكرُ
فبادرها الإنكارُ منَّا لقولها ... على أنَّنا والله بالحقِّ نُنكرُ
فرقَّتَ لَنعفو واستحتْ فلأجل ذا ... نرى وجهها يبدو لنا وهو أحمرُ
على ذكر استحياء الخمر، تذكرت لطيفة، وهي: أن بعض الظرفاء كان يشرب الخمر سرًّا، وكان والده يمنعه، وما زال أبوه يترصده إلى أن لقيه يوماً، ومعه زجاجة خمر، فقال: ما هذا؟ قال: لبن.
قال: اللَّبن أبيض، وهذا أحمر! قال: صدقتَ، لما رآك خجِل واحمرّ، وقبَّح الله من لا يستحي. فخجل، وانصرف، وخلاَّه.
وقوله:
أسيرُ وقلبِي عندكُم لستُ عالِماً ... بما فيه هاتِيكَ اللَّواحِظُ تَصنعُ
وما زِلتُ مشتاقاً لِطيْفِ خيالِكم ... وإِنِّي من الدُّنيا بذلكَ أقنعُ
وقوله:
قالَ العذولُ دَعِ الذي في حُبِّهِ ... عيناكَ قدْ سمحتْ بدمعٍ هامِعِ
فأجبتُه إن كنتَ لستَ بناظِرٍ ... هذا الغزالَ فلستُ منك بسامِعِ
وقوله:
لي فؤادٌ على المودَّةِ باقِ ... لم يزِغْ عن تذكُّرِ الميثاقِ
غيرَ أنَّ البُعادَ جارَ عليه ... فبراهُ ولم يدَعْ منه باقي
وجفونٌ جفَتْ لذيذ كراهة ... واسْتفاضتْ بمدمعٍ غيداقِ
كلَّما طالَ عهدُها طالَ منها ... مدمعٌ يرتَقي وليسَ براقِ
إنَّ درًّا أودعتموهُ بأُذني ... درَّ مذْ بنتُمُ من الآماقِ
وهذا معنًى مشهور. وله:
يا من نأى متجبِّراً يا جاني ... صيَّرتني متحيِّراً في شانِي
هلاَّ وقدْ أبعدْتني وقلَيتَني ... أرسلتَ طيفكَ في الكرَى يلقانِي
أمْطرتَ منِّي عَبرةً هي عِبرةٌ ... فضحتَ هوًى متستِّراً بجنانِي
هذه الأبيات فيها التوشيح.
قال ابن الأثير في المثل السائر: وهو أن يبنيَ الشاعر أبياته على بحرين مختلفين، فإذا وقف من البيت على القافية الأولى كان شعراً مستقيماً، من بحرٍ آخر، على عروض، وصار ما يضاف إلى القافية الأولى للبيت كالوشاح.
وكذلك يجري الأمرُ في الفقرتين من الكلام المنثور، فإن كل فقرة منها تصاغ من سجعتين، وهذا لا يكاد يستعمل إلا قليلاً، وليس من الحسن في شيء، واستعماله في الشعر أحسن منه في الكلام المنثور. انتهى.
وتسميته له بالتوشيح مخالف لما عليه أصحاب البديعيات؛ فإنهم يسمُّونه التَّشريع، إلا ابن أبي الإصبع؛ فإنه سنَّاه الالتزام، وأراد بذلك مطابقة التَّورية للمسمى. والاصطلاح لا مشاحَّة فيه.
ولده محمد الخطيب لوذعيٌّ فضائله لا تتناهى، وبمحاسنه تتجمل الأوقات وتتباهى.
إذا قام على منبر المسجد الجامع، تمنَّت الجوارح أن تكون كلُّها مسامع.
وهو لكلِّ عينٍ تراه حبيب، ولسان الدَّهر بمحاسنه خطيب.
تنشر في كل وادٍ مدائحه، كما تشكر في كلِّ نادٍ منائحه.
وتهتزُّ أعواد المنابر باسمهِ ... فهلْ ذَكِّرتْ أيَّامها وهي أغصانُ
فضائل الدنيا في ذاته محصورة، وأسباب العليا في جنابه مقصورة.
وله آثار أقلامٌ كأنَّها في محاريب رقِّه المنشور، قناديل ليلٍ قيِّدتْ بسلاسل السطور.
أدركتُه وسور محاسنه تتلى، وصور فضائله في مرايا المحامد تجلى.
ثم أدركه الأجل، فوضِع على الأعواد، ووُدِّع من القلب بالسُّويداء ومنه النَّاظرُ بالسَّواد.
فاستوحش الجامع لبعده، وتبدَّلت معالمه من بعده.
حتى اشتعلت مصابيحه بنار مصابه، وتقوَّس لفرقة ذاك الصَّدر ظهر محرابه.
وقد ذكرت من شعره ما ينفح عن زهر معانيه، وينبعث في حسن الأسلوب عن غرض معانيه.
فمن ذلك قوله من نبويَّةٍ، مطلعها:
تذكَّر من أسماءَ ربعاً ومعهدا ... فعنَّ له وجدٌ أقامَ وأقعدا
وأطْلقَ من عينيهِ سُحبَ مدامِعٍ ... حكتْ فوق خدَّيهِ الجُمانَ المنضَّدا