للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقيلَ: المُرادُ أنَّها إذا سمِعتْ المَزاهِرَ أيقنَتْ بالهلاكِ؛ لِما اعتادَه مِنْ نحرِها إذا سَمِع الغِناءَ وانتَشى وهبَّتْ فيه الأرِيحِيَّةُ، وهذا لا تعتادُهُ الإبلُ وتفهمُهُ إلَّا مع التَّكرارِ والاستمرارِ.

وقد يحتملُ أنِ يكونَ هذا استعارةٌ لكثرةِ النَّحرِ، وترادُفِ الحفَاوَةِ والبِرِّ،

/ وإنْ كانتْ لمْ تُرِدْ فهمَ الإبلِ لهلاكِها، ولكنْ لمَّا كانَ ذلك منه يوافقُ إهلاكَها، ويوقنُ من يعقِلُ به، أُضيفَ ذلك إليها؛ إذ هو واقعٌ بِها على ضَرْبٍ من الاستعارَةِ. وهذا النَّحوُ كلُّه من فصيحِ الكلامِ وبدِيع البيانِ، وهو نوعٌ يُسمِّيه أهلُ النَّقدِ والبلاغةِ: الإردافَ والتَّتبيعَ (١)، وهو أبلغُ في الوصفِ، كما سنذكرُه بعدُ، ومنه في معنى ما نحنُ فيه، ومثالُه: قولُ الشَّاعرِ (٢):

وَمسْتنْبحٍ تَهْوِي مَساقِطُ رَأْسِهِ ... إلى كُلِّ شَخْصٍ وهْوَ لِلسَّمْعِ أصْوَرُ

حبِيبٌ إلى كَلْبِ الكَرِيمِ مُناخُهُ ... بَغِيضٌ إلَى الكَوْمَاءِ (٣) والكلْبُ أبْصَرُ

وذلك أنَّ الكلبَ ينعمُ فيما يَلغُ فيه مِمَّا ينحرُ له، ويأكلُ منْ سقاطَتِها وعظامِها، فمتى رأى ضيفًا، أحبَّ نزولَه لذلك، والكومُ تبغضُه؛ لأنَّها تشقى


(١) الأرداف والتوابع: أن يريد المتكلم الدلالة على معنى فيترك اللفظ الدالّ عليه، الخاص به، ويأتي بلفظ هو ردفه وتابع له، فيجعله عبارة عن المعنى الذى أراده، وذلك مثل قول الله تعالى: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ}، وقصور الطرف في الأصل موضوعة للعفاف على جهة التوابع والأرداف؛ وذلك أن المرأة إذا عفّت قصرت طرفها على زوجها، فكان قصور الطرف ردفا للعفاف، والعفاف ردف وتابع لقصور الطرف. ينظر: «الصناعتين» (ص: ٣٥٠)، و «سر الفصاحة» (ص: ٢٢٩ - ٢٣٠).
(٢) البيتان من الطويل، وهما من قصيدة غير منسوبة في «سمط اللآلي شرح أمالي القالي» (١/ ٤٩٩)، و «ديوان الحماسة» (ص: ١٨٢).
(٣) في (ك): «الكرماء»، والكوماء: هي الناقة السمينة.

<<  <   >  >>