كنا وكان الرجل لا يبلغ ما يشتهيه من رتبة الوطنية إلا إذا قام في أمته مقاما محمودا يخاطر فيه بإحدى جوهرتيه ليدفع عنها خطبا مقبلا أو ينقذها من بلاء محيط، فإما بلغ في هجرته الغاية التي يريدها، وإما هلك من دونها هلاكا لا تؤلم نفسه صدمته، ولا تمر بفمه غضاضته؛ لأنه مخلص، وحسب المخلص جزاء له على إخلاصه أنه وفّى دينه الذي كان يثقل ظهره وكفى، فأصبحنا وليس بين المرء وبين نيل ألقاب الوطنية الأولى, وشاراتها الفضلى إلا صرخة عالية يصرخها في أحد المجامع, أو كلمة تافهة يكتبها في إحدى الصحف حتى تقام له الحفلات كما تقام لعظماء الرجال، وتمد إليه الأصابع كما تمد للقواد الأبطال، وربما كانت صرخة ذلك الصارخ جنة تمثلت في رأسه تمثل النهيق في رأس الحمار، فلما حان حينها عطس بها في ذلك المجمع الذي صادفه في طريقه لينفس عن نفسه، ويفرج من كربته، وربما كانت كلمة ذلك الكاتب نغمة من نغمات السؤال التي يترنم بها المتسولون، أو رقية من رقى الممخرقين التي يهمهمون بها استنداء للأكف, واستدرارا لحسنات المحسنين.
أعجب ما يعجب له المرء في هذه الأمة أنها لا تصدق الرجل