للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بهذا الوجود، بيد أني صبرت على هذا الرجل وعلى ما كان يكلفني به من التسول على قارعة الطريق؛ إبقاء على نفسي وضنا بحياتي أن تغتالها غوائل الدهر، وكان كلما رأى حاجتي إليه وإلى مأواه اشتطّ في ظلمي ولؤُم في معاملتي، حتى صار يضربني ضربا مبرحا كلما عدت إليه عشاء بأقل من الجعل الذي فرض علي جمعه في كل يوم، وما زلت أصابره برهة من الزمان حتى جاءني هذه الليلة بداهية الدواهي ومصيبة المصائب، فقد حاول أن يسلب من بين جنبيّ جوهرة العفاف التي لم يبق في يدي ما يعزيني عما فقدته من هناء الحياة ونعيمها سواها، فلم أر لي بدا من أن أفر من بين يديه متسللة تحت جنح الظلام من حيث لا يشعر بمكاني، وما زلت أمشي على غير هدى لا أعرف لي مذهبا ولا مضطربا حتى أويت إلى هذا الزقاق كما تراني، فهل لك يا سيدي أن تحسن إلي كما أحسن الله إليك، وأن تبتاع لي رغيفا من الخبز أتبلغ به، فقد مر بي يومان لم أذق فيهما طعاما ولا شرابا؟

سمع الرجل من الفتاة هذه القصة المحزنة فما استقبلها إلا بدموع حارة تنحدر على خديه انحدار العقد وهَى سلكة، ثم أخذ بيدها ومشى بها صامتا واجما لا يكاد يستفيق شهيقا وزفيرا حتى بلغ منزله، وهنالك صنع بها صنع الكريم بأهله، وأبلغها من

<<  <  ج: ص:  >  >>