افترق ذانك الصديقان الوفيان، جسمها وروحها، فطفا منهما ما طفا ورسب ما رسب.
وفي صباح ذلك اليوم عثر الشرَط بجثة الفتاة الشهيدة, فعرفوها وعادوا بها إلى منزل سيدها فبكاها بكاء كثيرا, وندم على ما أساء به إليها من طردها وإزعاجها, ثم أمر بدفنها ولم يبق في يده من آثارها غير حقيبتها التي حفظها في صندوقه دهرا طويلا.
مرت الأيام تلو الأيام وجاءت الحوادث إثر الحوادث, وظهر للرجل من أخلاق ابنته وطباعها وتهتكها واستهتارها ما لم يكن يعرفه من قبل, حتى ضاق بأمرها ذرعا وجلس في غرفته في إحدى الليالي يفكر فيما ساق إليه الدهر من خطوبه ورزاياه، ثم ألم به الضجر فقام يقلب في صندوقه حتى عثر بتلك الحقيبة ولم يكن قد فتحها حتى هذه الساعة، فإنه ليقرأ فيها إذ عثر بتلك الكلمة التي كتبتها الفتاة على شاطئ النهر قبل موتها, فما أتى على آخرها حتى عرف كل شيء، فسقط مغشيا عليه يعالج من الحزن والهم ما يعالج المحتضر من سكرات الموت.
فما استفاق من غشيته حتى صار يهذي هذيان المحموم, ولبث على هذا الحال بضعة أشهر يمرض ثم يبل, ثم يمرض ثم يبل, حتى أدركته رحمة الله فمرض مرضا لم ينقض إلا بانقضاء أجله.