الرشيد غير هياب ولا وجل, فما استطاع أخو الخليفة أن ينتصف لنفسه منه هيبة وإجلالا، وكان ابن عائشة المغني لا يغني إلا لملك أو ولي عهد حتى كان الخليفة إذا أراد أن يختار من بين أبنائه من يعهد إليه بالأمر من بعده لا يكتب له بذلك عهدا بل يأذن لابن عائشة أن يغني عنده, فلا تطلع عليه الشمس حتى يفد الناس إليه يهنئونه بولاية العهد، فإن دعاه إلى الغناء لديه أمير أو وزير ووجد من قوة الدالّة بنفسه ما يدفع به الطلب عنه، ويروى أن ابن أبي عتيق وهو من نعلم في شرف البيت وجلال المحل رأى ابن عائشة يوما وحلقه مخدوش فقال: من فعل بك هذا؟ قال: فلان، وأشار إلى ضاربه، فمضى ونزع ثيابه وعاد فجلس للرجل على بابه، فلما خرج أخذ بتلبيبه١ وجعل يضربه ضربا موجعا, والرجل يصيح: أي شيء صنعت؟ وما ذنبي إليك؟ وهو لا يجيبه حتى بلغ منه، وأقبل الناس فحالوا بينه وبينه وسألوه عن ذنبه، فقال: إنه أراد أن يكسر مزمارا من مزامير داود، يريد أنه خنق ابن عائشة وخدشه في حلقه. ومما يروى من حوادث تيهه وترفعه أنه خرج من عند الوليد بن عبد الملك وقد غناه:
أبعدك معقلا أرجو وحصنا ... قد أعيتني المعاقل والحصون
١ التلبيب: ما في موضع اللبب من الثياب أي: ما يدور بالعنق من القميص ونحوه.