فمهما كان نصيب آبائنا من الجهل وانفراج المسافة بينهم وبين هذه المدنية الحاضرة, فقد كانوا على علاتهم أسعد منا حالا وأروح بالا وأهنأ عيشا وأسد خطوات في سبل الحياة، وكانت المعيشة فيهم اجتماعية أكثر منها أفرادية، فكانت الأسرة الواحدة أشبه شيء بالمملكة الدستورية المنظمة يدبرها عقل واحد في جسوم كثيرة متفقة في الرأي والدين والمذهب والأخلاق والعادات، تجتمع حول المائدة كما تجتمع في نادي المسامرة, وتتلاقى في قاعة الصلاة كما تتلاقى في ساحة المتنزة، يحبون الله ولا يختلفون إلا في الطريق إلى رضاه، ويحبون الوطن ولا يختلفون إلا في الطريق إلى خدمته، ويحترمون عاداتهم وأخلاقهم ولغاتهم المكونة لهيئتهم الاجتماعية ويفرون من العادات والمشارب الغريبة عنهم فرارهم من الأسد مخافة أن يرق هذا الحاجز القائم بينهم وبين الأمم الأخرى, فتنحل جامعتهم فتهدأ حميتهم فتموت نفوسهم, فإذا هم ميتون ثم لا يبعثون.
وكان بين الصغار في العائلة والكبار فيها معاهدة رحمة واحترام، يحترم الصغير الكبير فيكبر عمله وإرادته ومذهبه، فإذا أنزل نفسه منه هذه المنزلة أصبح بحكم الطبيعة مرآة له تنطبع فيها تلك الأعمال والإرادات والمشارب، حتى إذا أصبح الصغير كبيرا وجد