هذا الجندي الشريف واقفا هذا الموقف الذليل يسمع قراع الدفوف لا قراع السيوف، ويرى حمرة الصهباء لا حمرة الدماء، ويحمي الفسق والفجور لا القلاع والثغور، وما أعجب لشيء عجبي لهذه الحكومة التي تضنّ بجنديها أن يشتمه شاتم أو يلمسه لامس فتغضب له غضبة مضرية تتراءى فيها الشهامة والحمية والعزة والنخوة, ثم لا تضن به أن تؤجره نائحة في الجنائز أو قوادا في المراقص، وهو هو بعينه الذي يمثلها في وقفاته، وينوب عنها في غدواته وروحاته!
هذا ما كان يحدثني به ذلك الصديق وهو سائر بي إلى قاعة المرقص حتى وصلت إليها, فماذا رأيت؟
إن كنت لم تسمع في حياتك أن فدانا واحدا من الأرض يبتلع في جوفه ستة ملايين من الأفدنة فاعلم أنه المرقص الذي يأكل وحده جميع ما تنبته تربة مصر من الخيرات والبركات، فكأنه العين التي تسع الفضاء بأرضه وسمائه، أو القلب الذي يحمل في سويدائه علم ما كان وما يكون.
رأيت الدنانير ذائبة في الكئوس، والعقول جامدة في الرءوس، والحبائل منصوبة لاستلاب الجيوب، والسهام مسددة لاصطياد القلوب، ورأيت من كنت أحسبه أوفر الناس عقلا