للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وأعجب ما كنت أعجب له من أمرهم أنهم كانوا ينكرون علي رأيي في ترك ذلك الطعام ويمعنون في مساءلتي عنه وحجاجي فيه وحملي عليه, ويلحون في ذلك إلحاحا شديدا حتى ظننت أنهم قاتليّ من دونه١ كأنما يزعمون في ضوضائهم هذه أنهم إنما يأكلون لحم الحيوان باسم الشريعة الدينية لا باسم القرم والجعم٢, أو أن الله تعالى أنزل عليهم قرآنا ألا يقيم لهم يوم القيامة وزنا ولا يقبل منهم صرفا ولا عدلا إلا إذا قدموا عليه ببطون بجر٣ مكتظة بلحوم الحيوان تتقدم بين أيديهم في منصرفهم من الحساب لتفتح لهم أبواب الجنان، وكأنهم فرغوا من أداء ما افترض الله عليهم أن يؤدوه وترك ما أمرهم أن يتركوه, فلم يبق


١ كتب ابن أبي عمران إلى أبي العلاء جملة رسائل يسأله فيها عن سبب امتناعه عن أكل اللحم ويبكته فيها تبكيتا مؤلما, ويعرض عليه أن يحمل بعض الأمراء على أن يرسل إليه ما يكفيه مئونة ذلك إحراجا له وإعناتا, وأبو العلاء يومئذ في أواخر حياته ومنتهى شيخوخته, قد ضعفت شهوته عن اللحم وغيره ووهنت قوته عن المناظرة والجدل حتى قال في بعض أجوبته عن تلك الرسائل: "ولو مثل بحضرته السامية لعلم أنه لم يبق فيه بقية لأن يسأل, ولا أن يجيب وقد عجز عن القيام في الصلاة, فإنما يصلي قاعدا والله المستعان".
٢ القرم والجعم: شهوة اللحم.
٣ بجر جمع أبجر, وهو الممتلئ.

<<  <  ج: ص:  >  >>